random
آخر التقارير

كيف نفهم مرض الاكتئاب ؟


من منّا لم يختبر حالات من التعاسة، الإحباط، والقلق، ربما بسبب فقد حبيب أو مشكلة في العمل أو بسبب بؤس الظروف الاجتماعية أو الاقتصادية؟ هنا يوصّف الشخص العادي ذاته بأنه مكتئب، بينما في الحقيقة يعد الاكتئاب شيئا مختلفا عن ذلك لا يستطيع إدراكه بشكل واضح إلا من قام بتجربة مباشرة معه، فالاكتئاب ليس حالة من الاضطراب وتعكر المزاج أو فقدان الدافع، لكنه مرض ذو رابط فيسيولوجي يمتد تأثيره حتى على شهيتك، نظام نومك، تركيزات النواقل العصبية في خلايا مخك، تأثير يمتد لفترات طويلة، دائرة تتكرر ولا تخرج منها كما هي العادة، دائرة يدخل فيها أكثر من 300 مليون شخص في العالم من كل الأعمار.

على مدى سنوات طويلة تمكنت الكثير من شركات الأدوية عبر حملات دعائية منظمة من دعم فرضية الخلل الكيميائي سببا للاكتئاب أمام العامة، وهي الفرضية التي تنص على أن سبب الاكتئاب هو فقط خلل في تركيز مجموعة من النواقل الكيميائية* التي تنقل الإشارات بين الخلايا العصبية، السيريتونين (Serotonin) خاصة والأكثر شهرة، وبالتالي فإن استخدام بعض الأدوية، كمانعات استرداد السيريتونين (SSSRIs) مثلا والتي تعيد رفع تركيزه في الوصلات بين الخلايا العصبية يمكن لها إعادة هذا الاتزان لنمطه الطبيعي.

تلقى تلك الفرضية قبولا واسعا بين الجمهور، حتى أن كلا من كريستوفر فرانس من جامعة كليفلاند وبول لايزاكر من كلية الطب بجامعة إنديانا حينما قاما بعرض استفتاء على 262 طالبا جامعيا قَبِلَ 84.77% منهم بفكرة أن الاكتئاب هو فقط خلل في اتزان مواد كيميائية محددة بالجسم، لكن في الحقيقة يرى الباحثون في الوسط العلمي أن تلك الفرضية هي اختزال مخل لمشكلة غاية في التعقد، لكن.. ألا تقوم تلك الأدوية بعلاج المرضى؟ لم تعتبر فرضية عدم الخلل الكيميائي مشكلة إذن؟

خلل كيميائي

إن قدرة الدواء على علاج أعراض مرض ما لا تعني أن هذه الأعراض ذات علاقة بالمواد الكيميائية التي يضبط الدواء تركيزها في الجسم، فكون الباراسيتامول يخفف من الصداع لا يعني أن سبب الصداع هو نقص الباراسيتامول في الجسم رويترز

قبل خمسين عاما تقريبا ظهرت "فرضية أحادي الأمين" (Monoamine Hypothesis) لشرح أسباب الاكتئاب، وتقول الفرضية أن سبب الاكتئاب هو انخفاض تركيز بعض النواقل الكيميائية أحادية الأمين كالسيريتونين والنور-ايبنفرين (Norepinephrine) والدوبامين، واعتمدت تلك الفرضية على دليلين رئيسين، الأول هو أن أعراض الاكتئاب تتم معالجتها بالفعل حين نستخدم أدوية ترفع من تركيزات تلك النواقل، فالسيريتونين يقلل بالفعل من الحزن والشعور بالذنب، والدوبامين يقلل من حالة انعدام التلذذ (anhedonia) والتي يفقد المريض خلالها القدرة على الاستمتاع بأي شيء، والنور-ايبنفرين يقلل من حالة الخمول الشديد المصاحبة للاكتئاب، أما الدليل الآخر فكان ظهور الاكتئاب في مرضى الضغط الذين يتلقون مادة الريزربين (Reserpine)، ثم تبين فيما بعد أن لتلك المادة دور في خفض تركيزات كل من السيريتونين والدوبامين والنور-اينفرين.

رغم ذلك يرى الباحثون حاليا أن تلك الفرضية تختزل الاكتئاب بشكل لا يمكن قبوله، لأن قدرة الدواء على علاج أعراض مرض ما لا تعني أن هذه الأعراض ذات علاقة بالمواد الكيميائية التي يضبط الدواء تركيزها في الجسم، خذ الباراسيتامول -البانادول- مثلا، كون الباراسيتامول يخفف من الصداع لا يعني أن سبب الصداع هو نقص الباراسيتامول في الجسم.

حديثا يهتم العلماء بفرضية أكثر عمومية ترتبط بالوصلات بين الخلايا العصبية، حيث تمكننا التقنيات الحديثة لتصوير الدماغ كالتصوير المقطعي بالإصدار البوزيتروني (positron emission tomography) والرنين المغناطيسي الوظيفي (functional magnetic resonance imaging) من خطف نظرة أكثر قربا ووضوحا للدماغ البشري أثناء عمله، حيث يمكن إخضاع المرضى لاختبارات وظيفية أو فكرية ودراسة نشاطهم الدماغي خلال تلك الاختبارات.

دماغ المكتئب
مؤخرا بدأت بعض الدلائل التي تؤكد وجود ارتباط بين الاكتئاب وحجم مناطق معيّنة بالمخ، خذ مثلا تلك الدراسة العالمية والتي قام بها خمسة عشر مركزا بحثيا في نطاق كل من الولايات المتحدة وأوروبا وأستراليا على 8927 حالة منهم 1728 حالة مصابة باكتئاب مرضي، أكدت نتائج تلك الدراسات تقلص حجم منطقة من المخ نسمّيها قرن آمون أو الحصين (hippocampus) بنسب متفاوتة في 65% من المرضى عن الطبيعيين، كما أكدت أنه كلما تعرض المريض لنوبات حادة متتالية من الاكتئاب كلما تقلص حجم تلك المنطقة، وهي المسؤولة عن الذاكرة طويلة الأمد ووصل الذاكرة بالمشاعر، تجارب أخرى مشابهة حصلت على نفس النتائج.



بعض العلماء يُرجع مشكلة الاكتئاب لأسباب جينية، ويستدل هنا بأن أمراضا كالاكتئاب والاضطراب ثنائي القطب وغيرها من الأمراض النفسية تجري في بعض العائلات من الجذور حتى الفروع بيكساباي

لفتت تلك الفكرة انتباه الباحثين لنقطة غاية في الأهمية، وهي العلاقة بين الإنتاج البطيء** للخلايا العصبية في تلك المنطقة من المخ والحالات المزاجية المتدنية، فكما قلنا في مقال سابق عن اللدونة العصبية إن عملية تخليق خلايا أو وصلات عصبية جديدة لا تتوقف عند الطفولة ولكن تمتد لباقي العمر ولكن بدرجة أكبر، وأن حالات مزاجية قد تكون السبب في دعم تكون/تبدد خلايا عصبية جديدة أو وصلات بين الخلايا العصبية الموجودة بالفعل.

في المقابل تدعم بعض مضادات الاكتئاب تلك الفرضية، فالأدوية التي ترفع من تركيز السريتونين -رغم أنها ترفع تركيزه سريعا في الجسم- أثرها يحتاج لمدة طويلة (حول أربعة أسابيع) قبل أن يبدأ، وقد حيّر ذلك الباحثين لفترة طويلة ودفعهم لوضع عدد من المقترحات، لكن الفرض الجديد الذي يتحدث عن تكوين خلايا عصبية جديدة في المخ يؤيد ذلك التأخر، لأن تكوين تلك الخلايا الجديدة يأخذ وقتا أطول بالفعل، وهذا ما أكدته التجارب على الحيوانات والتي كوّنت خلايا عصبية جديدة مع جرعات من مضادات الاكتئاب، هنا يمكن أن تكون تلك النواقل الكيميائية إذن هي فقط همزة وصل ذات علاقة بالسبب الرئيس للاكتئاب وليست السبب نفسه.

مناطق أخرى كالقشرة الخزامية الأمامية (Anterior Cingulate Cortex) ذات العلاقة بالتحكم في الاندفاع والتعاطف مع الآخرين واللوزة الدماغية (Amygdalaa) والتي تشارك في إدراك وتقييم العواطف، وترتبط بالاستجابات السلوكية المرتبطة بالخوف والقلق وهي تعتبر كنظام إنذار واستشعار للمتعة، وعدة مناطق في القشرة الجبهية (prefrontal cortex) واجهت انخفاضا ملحوظا في النشاط والحجم عند مرضى الاكتئاب، وازداد التدهور مع ازدياد عدد النوبات.

عوامل أخرى مهمة
رغم ذلك كله، لا تزال المشكلة قائمة إلى الآن، فالبعض يقول إن ذلك لا يعني أن تلك المناطق الدماغية للمكتئبين هي السبب، حيث ربما العكس هو ما يحدث، ربما يخفّض الاكتئاب من نشاط وحجم تلك المناطق بينما ليست هي السبب في الاكتئاب، وربما هناك سبب آخر منفصل، في الحقيقة تطرح مجموعة أخرى من المشكلات نفسها كأسباب للاكتئاب.


يصاب 1-2% من البشر بالاكتئاب بسبب التعرض لإصابات شديدة، أو التعرض لحالات فقدان أحد الآباء في الطفولة، أو للاستغلال الجنسي، وحتى تغير الفصول أن سبلاش

البعض من العلماء مثلا يُرجع مشكلة الاكتئاب لأسباب جينية، ويستدل هنا بأن أمراضا كالاكتئاب والاضطراب ثنائي القطب وغيرها من الأمراض النفسية تجري في بعض العائلات من الجذور حتى الفروع، ومن المعروف أنه إن أصيب أحد التوأمين بالاضطراب ثنائي القطب فإن هناك احتمال 60% أن يصاب أخيه أو أخته أيضا، ويعتقد العلماء أن الأسباب الوراثية للاكتئاب تدور حول 40-60% من الحالات، كذلك تشير دراسات التبنّي أن الاكتئاب يسري في الأطفال وفقا لعائلاتهم الحقيقية مهما تربوا في ظروف مختلفة، لكن هنا يجب توضيح أننا في كل تلك الأحوال لا نتحدث إلا عن قابلية بعض الأفراد دون غيرهم.

في المقابل يرجح تيّار آخر من الباحثين مجموعة من الأسباب ذات العلاقة بالظروف البيئية، فالضغط العصبي، القلق المستمر بسبب العمل، الحوادث الكارثية كفقدان شخص عزيز، قادرة على استثارة مناطق مخية كمنطقة تحت المهاد (hypothalamus) والتي تبدأ سلسلة من الإشارات التي تنتهي بإفراز مادة الكورتيزول (cortisol) من الغدة الكظرية والتي ترفع من معدلات نبض القلب وسحب الأكسجين عبر التنفس، في الحالة الطبيعية يرتفع تركيز الكورتيزول في الجسم لمدة قليلة حسب الحالة ثم ينحسر، لكن في بعض الحالات لا يحدث ذلك، تشير بعض الدراسات إلى علاقة وطيدة بين الاكتئاب واستمرار وجود تركيز مرتفع من الكورتيزول في الجسم.

أسباب أخرى تشارك في محاولات العلماء لفهم الاكتئاب، كالتعرض لإصابات شديدة، التعرض لحالات فقدان أحد الآباء في الطفولة، التعرض للاستغلال الجنسي، وحتى تغير الفصول، حيث يصاب 1-2% من البشر بالاكتئاب لهذا السبب، ويرجح العلماء أن له علاقة بالشتاء بشكل أكبر بسبب انخفاض كم الضوء الذي يتعرض له المريض في فصل الشتاء عن الصيف، قد يظهر الاكتئاب كذلك بسبب تعاطي بعض الأدوية، أو الإصابة ببعض الأمراض، أو نقص بعض الفيتامينات المهمة في الجسم، هناك العديد من العوامل التي يمكن لها دفع الاكتئاب للظهور، بل إن بعض الأبحاث تشير إلى عوامل تطورية.


رغم حاجة المرضى للرعاية النفسية من قبل متخصصين في العلاج النفسي فإن الاكتئاب هو اعتلال بيولوجي قد تتسبب فيه أسباب نفسية، لكنه لا يزال مشكلة لها علاقة بفيسيولوجيا الجسم البشري أن سبلاش

الاكتئاب هو إذن مشكلة غاية في التعقد والتشابك، تتدخل فيها مجموعة كبيرة من العوامل كما رأينا، ورغم قدرتنا -كبشر- على تحقيق بعض الفهم لها فإننا بتعبير هال أركويتز (أستاذ علم النفس الإكلينيكي بجامعة أريزونا) ما زلنا غير قادرين على تحقيق صورة كاملة واضحة، حيث يشبه الأمر مثال الفيل الشهير، حينما دخل مجموعة من الباحثين إلى غرفة مظلمة فيها فيل من دون أن يكونوا قد سمعوا عنه من قبل أو عرفوا شكله، وطُلب منهم أن يتحسسوا ما أمامهم ثم يخرجوا بوصف علمي للفيل، خرج الأول ليقول إن الفيل هو أنبوب طويل خشن يتنفس بقوة، وقال الثاني إن الفيل هو كتلة من اللحم هائلة كثيفة الشعر وعريضة القاعدة، وهكذا خرج كل باحث ليحكي ما رصد فقط، يحتاج الأمر منّا لبعض الوقت كي نتفهم الصورة الكاملة.

حسنا، لم يكن هدفنا في هذا المقال هو طرح حلول للمشكلات، أو إيجاد الأسباب النهائية لهذا المرض قوي الأثر، لكن كان فقط لتوضيح أن السؤال عن "ما أسباب الاكتئاب؟" ليس بالبساطة التي تروج بها شركات الأدوية لعقاقيرها، ولا بسهولة عروض منشورات شبكات التواصل الاجتماعي -وما أكثرها- والتي تروج إلى أن الاكتئاب هو فقط دوبامين وسيريتونين منخفض، لأن ذلك قد يكون ذا أثر سيئ على مرضى الاكتئاب بالفعل، ذلك لأن أكثر من 40% منهم ربما لا يستجيب للدواء، هنا سوف يدفعه ذلك للمزيد من الإحباط.

ما زال العلماء يحاولون الوصول لتلك الصورة الكاملة عن المرض، ومن خلال ذلك كله نتمكن من تطوير أدوية جديدة في كل مرة تساعد من لم يستجيبوا للأدوية السابقة على تحقيق بعض التحسن، في تلك النقطة يجب أن ننهي المقال بتوضيح مهم، وهو أنه رغم حاجة المرضى للرعاية النفسية من قبل متخصصين في العلاج النفسي فإن الاكتئاب هو اعتلال بيولوجي قد تتسبب فيه أسباب نفسية، لكنه لا يزال مشكلة لها علاقة بفيسيولوجيا الجسم البشري.


المصادرموقع ميدان عن كاتبه شادي عبد الحافظ
google-playkhamsatmostaqltradent