random
آخر التقارير

استغلال لضعفنا.. كيف تتلاعب بنا شركات الأدوية؟




يُنظر للطب دائما على أنه المهنة الأكثر إنسانية، كيف لا وهو يتعامل مع أهم عنصر في هذا الكون، ألا وهو الإنسان. وخيرية الطب تتبدى في كونه المنقذ، فعلم كالطب هدفه تحسين صحة الإنسان، ورفع جودة حياته، وزيادة عمره، بالتأكيد يصلح لأن يُعتبر طوق نجاة.


وفي كون أصبحنا نراه عدوا لا يُضيّع فرصة لكي يهاجمنا، صار الطب الجدار الذي نحتمي به من هجمات لا ندرك مصدرها، ونتيجة لجهلنا -أو لتجهيلنا- بجسدنا كجزء لا يتجزء عن كليتنا كبشر سلمنا أنفسنا لما نعتقد فيه المعرفة والقدرة على التعامل بحكمة مع ما نجهل، فهل الطب هو فقط المعرفة والممارسة، الشفاء والرعاية؟ أم هو نوع من السلطة: سلطة الأطباء، وسلطة المؤسسات، وسلطة الشركات المصنعة للدواء، وسلطة الحكومات، وسلطة شركات التأمين، وحتى سلطة الجيوش في زمن السلم أو في زمن الحرب؟ هل الممارسات الطبية الحالية بريئة وسامية؟ أم أن هناك حقائق لا نعرفها وعوامل لا ندرك تأثيرها تشكّل وتنتخب لنا أساليب تداوي بعينها بدون أن نحظى بفرصة الفهم والاختيار؟!

التغيير من الحاجة إلى الاستبداد
كأي ممارسة حديثة مر الطب بمراحل تنظيمية مختلفة وصلت به في النهاية إلى صورة مؤسسية ثابتة ومستقرة، فلماذا اتجهت الممارسات الطبية إلى التنظيم والمأسسة؟ وما الذي أثر عليه هذا الاتجاه؟
إن صناعة الدواء باعتبارها من أكبر مصادر الثروة، كان دائما لها أثر لا يُنكر في توجيه دفة الممارسة الطبية، فهي توفر طرقا علاجية سريعة المفعول وسهلة التداول، على عكس علاجات طرق التداوي الأخرى
بيكساباي
حتى بدايات القرن التاسع عشر لم يكن الأطباء أو الممارسون لمداواة الناس يحتاجون لترخيص مهني يسمح لهم بممارسة مهنة الطب، وكان ذلك بالتأكيد يؤثر على جودة الأداء ويُعرّض الناس لبعض عمليات الاحتيال التي يمارسها الأشخاص الجهّال المدعون، بالإضافة إلى هذا الدافع فقد تضافرت عوامل أخرى كثيرة (سياسية، واقتصادية، واجتماعية) أدت إلى رغبة الدول في المزيد من السيطرة على مجال الطب. فعلى المستوى السياسي تزامنت هذه الفترة التاريخية مع الإمبريالية الاستعمارية، حيث كانت الدول ترغب في توجيه البحث الطبي وتدعيمه بالصورة التي تساعدها على الخروج بالنتائج المرجوة لخدمة وجودها الاستعماري.

وعلى المستوى الاقتصادي فإن صناعة الدواء باعتبارها من أكبر مصادر الثروة، كان دائما لها أثر لا يُنكر في توجيه دفة الممارسة الطبية، فهي توفر طرقا علاجية سريعة المفعول وسهلة التداول، على عكس علاجات طرق التداوي الأخرى والتي تمارس على المستوى الشخصي للمريض وتحتاج وقتا أطول ومجهودا أكبر. هذا كله وأكثر نقل عملية التعليم والتدريب والممارسة الطبية من السعة -على مستوى أساليب التداوي وطرق التعامل مع الحياة والإنسان- إلى ضيق الاعتماد والتدعيم الرسمي المؤسسي لشكل واحد من ممارسات التداوي. ففي الولايات المتحدة -على سبيل المثال- لعب تشكيل الجمعية الطبية الأميركية عام 1847 دورا كبيرا في التضييق على ممارسي الأنواع الأخرى من الطب غير الطب الحديث.

وكان إصدار تقرير فليكسنر لتقييم جودة التعليم الطبي عام 1910 بمنزلة رصاصة الرحمة لكل أنواع الطب البديل، حيث اعتبر التقرير أن طرق التداوي هذه بعيدة عن معايير البحث العلمي ولا تعتمد على أي إثباتات حقيقية، فأدى ذلك إلى إغلاق معظم مؤسساتها التعليمية وسُحب منها الدعم المالي مما أثر بالتأكيد على استمرارية وجودها، وإن كانت قد استمرت في بلدان أخرى كالهوميوباثي الذي ضمن وجودا دائما له في بريطانيا والهند كطريقة تداوٍ معترف بها.

الطب الإمبريالي أو هل الطب بريء ومحايد؟
 "فالإمبريالية تضفي ضوءا كاشفا على حقيقة أن الطب أيدولوجية بقدر ما هو تطبيق"(7)
تم التعامل مع رؤى الشعوب المستعمرة للأمراض وطرق تعاملهم معها على أنها محض خرافات يجب التخلص منها وإحلال عقلانية وعلمية وشمولية الطب الحديث مكانها
رويترز 
يحاجج كتاب "الطب الإمبريالي والمجتمعات المحلية" -الصادر بترجمته العربية عن منشورات عالم المعرفة- بأن الطب كان واحدا من أهم أدوات الإمبريالية في فترة الاستعمار، وأنه بوصوله في نهاية القرن التاسع عشر إلى درجة غير مسبوقة من التقدم قد أصبح دليلا إيمانيا لأوروبا على تفوقها الفطري وسيادتها على الطبيعة، وأصبح بذلك أداة مهمة مكّنت المستعمرين من إعادة تنظيم البيئة، وإعادة صياغة المجتمعات والاقتصادات المحلية في ضوء مدركات الإمبريالية وأولوياتها الخاصة بها.

ونتيجة لتركيز الطب على مسببات الأمراض ومحاولة القضاء عليها -كما الحال مع البكتيريا مثلا- فقد تجاهل الطب في ممارساته في المناطق المستعمرة السياقات التي تنتشر فيها الأمراض، ووُضعت خطط معيبة للتعامل معها، واستمرارا لذات النهج في التعامل مع طرق التداوي المختلفة عن الطب الحديث -من حيث إنكار الفاعلية والتضييق- فقد تم التعامل مع رؤى الشعوب المستعمرة للأمراض وطرق تعاملهم معها على أنها محض خرافات يجب التخلص منها وإحلال عقلانية وعلمية وشمولية الطب الحديث مكانها.

وتدلل التقارير المذكورة في الكتاب على هذه الطريقة الإمبريالية التي تعامل بها الطب الحديث مع المشكلات الطبية في المستعمرات، فعلى سبيل المثال مرض كالبلهاريسيا (وهو مرض مستوطن في مصر التي كانت أحد المستعمرات البريطانية) كان يمثل مصدر فزع في بداية الأمر بالنسبة للإنجليز، فقد كان خوفهم الأول هو انتقاله لهم عبر الجنود الموجودين في مصر، وهذا هو ما حركّهم لمحاولة البحث عن مسبب المرض وفهم كيفية انتقاله وإيجاد العلاج له، كل هذا بهدف حماية أنفسهم وليس من منطلق إنساني باعتبار الطب مهنة إنسانية. وفي سبيل حل مشكلة البلهاريسيا فقد اعتمد الأطباء البريطانيين على استخدام مواد كيميائية للقضاء على ناقل المرض، وتم تجاهل السياق العام الأساسي وهو الفقر وسوء التغذية الذي يؤدي لانتشار الإصابة بالبلهاريسيا وبمعظم الأمراض الأخرى في المناطق الحارة.

وجد البريطانيون طريقة أخرى للتطعيم رأوا أنها أكثر فاعلية من الطريقة المحلية في الهند، وحاولوا تعميمها متجاهلين الخصوصية المجتمعية والجغرافية والثقافية الثرية للهند (رويترز)



ومثال آخر مذكور في الكتاب وهو مرض الجدري في الهند، ومرض الجدري له تاريخ طويل من الوجود الدائم في الهند، وقد ارتبط لديهم ببعض المعتقدات الدينية، وكان لهم طريقة في التطعيم (التلقيح المباشر) للوقاية من هذا المرض، لكن البريطانيين قد وجدوا طريقة أخرى للتطعيم رأوا أنها بالتأكيد أكثر فاعلية من الطريقة المحلية، وحاولوا تعميمها، لكنهم -مرة أخرى- تجاهلوا الخصوصية المجتمعية والجغرافية والثقافية الثرية للهند، فلاقوا الكثير من الصعوبات والفشل.

الخوف من غياب القيمة وتحكم المال
ارتبط الطب الحديث منذ بزوغ فجره بالاكتشافات الدوائية للأمراض المعروفة، ولأنه -أي الطب الحديث- يتعامل مع الجسم كآلة كيميائية فقد تحول السعي لتوفير الدواء إلى صناعة، ومن ثم تحولت الصناعة إلى تجارة، والتجارة ولدت المنافسة، والمنافسة اتسعت بحيث شملت مجالات البحث العلمي الذي يسعى لاكتشافات جديدة وحصرية تحقق ربحا أكبر لمن يسبق إليها. هذا السباق المحموم من أجل الربح ولّد الكثير من الشبهات حول تأثير المال في عملية التداوي بكافة مراحلها، بداية من نتائج البحث العلمي وتوصياته حول المرض وفعالية الدواء المقترح لعلاجه، مرورا بالتشخيص ووصف الدواء الذي يقوم به الطبيب، وانتهاء إلى اختلال الصورة الكلية لعملية التداوي واختلال القيمة فيها واصطباغها بالمكسب المادي والمصلحة.

وبغض النظر عن صحة الشكوك من عدمها، فإن عملية التداوي التي تقوم بالأساس على الثقة تفقد مصداقيتها نتيجة بروز هذه الشبهات، وتسيطر التساؤلات حول ما إذا كان الحماس من الطبيب لدواء جديد أو جهاز طبي يستند إلى حرص حقيقي على ما يناسب المريض ويؤدي إلى شفائه أم لا؟ كل هذه الشكوك تؤدي إلى فقدان الثقة في منظومة الرعاية الصحية كلها.

في نهاية الكتاب تتساءل د. لانسكي لماذا لا تكون لنا الحرية في استخدام الدواء الذي نختاره؟ ولماذا يُفرض علينا نوع من الممارسات الطبية بينما يحُظر غيرها؟
بيكساباي
  
وفي نفس الإطار يطال الشك أيضا نتائج البحوث الطبية والدوائية، فقد أجريت دراسة من قبل بول ريدكر وخوسيه توريس ونشرت عام 2006 في مجلة الجمعية الطبية الأميركية، قام فيها ريدكر وتوريس بتحليل عينات عشوائية من التجارب السريرية المقارنة بين تأثير دوائين على القلب والأوعية الدموية المنشورة في المجلات الطبية الرائدة خلال فترة الخمس سنوات من 2000-2005. ووجد الباحثان أن 67.2٪ من الدراسات الممولة حصريا من قبل المنظمات الربحية تفضّل العلاج الجديد، في حين أن 49٪ فقط من الدراسات التي تمولها منظمات غير ربحية أظهرت نتائج لصالح العلاج نفسه.

الحرية الصحية حق لنا
في ختام كتابها عن الهوميوباثي تتساءل د. لانسكي لماذا لا تكون لنا الحرية في استخدام الدواء الذي نختاره؟ ولماذا يُفرض علينا نوع من الممارسات الطبية بينما يحُظر غيرها؟ وتتساءل كذلك عن خصوصية أجسادنا والتي هي فرع عن خصوصية أرواحنا وأنفسنا، وعن وجوب امتلاكنا للحرية الطبية إلى جانب حرية المعتقد وحرية التعبير.

وتبثنا المخاوف الكبيرة حول استمرار تصنيع العقاقير، والكيماويات السامة، والهندسة الوراثية، والحرب البيولوجية التي تلوح في الأفق، وتكلفة الرعاية الصحية التي تتصاعد بشكل فلكي، وتضيف في مقارنة لطيفة أنه كما أنه من الأفضل أن ندعم السلام بدلا من التسابق للتسلح، فإن تنظيف البيئة وتقوية قدراتنا الطبيعية ضد المرض هي إستراتيجيات أفضل لتحقيق الصحة من تطوير العقاقير القوية والسامة، لعلنا بذلك نستطيع أن نحفظ فرصة الأجيال القادمة في الحياة على ظهر كوكبنا المتهالك.
google-playkhamsatmostaqltradent