إن المنطق البشري متصل بشكل أو بآخر بحضارة كل أمة، و من الناحية الثقافية جميع الحضارات لديها قواسم مشتركة فيما بينها سواءً كان بسبب التقارب العقائدي أو بسبب التأثير الفكري سواءً الايجابي الناتج عن هيمنة أمة متحضرة على امم أخرى كما هو حال الحضارة الأندلسية الإسلامية على الشعوب الأوروبية المتخلفة آنذاك ، والاشعاع الثقافي الذي نتج عن ذلك في المجالات العلمية كالطب و علم الحساب أو المجالات الفكرية كعلم النفس و التأريخ والتدوين . أو السلبي كالإحتلال الغربي أو (الإستحلال) كما يحب أن يسميه بعض المؤرخين ، لحواضر العالم الإسلامي والشرق الأقصى أصحاب الحضارات القديمة الممتدة لقرون سحيقة والتي لازال علماء التاريخ والآثار عاجزين عن التيقن بعمرها الحقيقي .
ولكن بعيداً عن التشعب في التفاصيل التاريخية ، فإن الإحتلال أو الإستعمار اسمه ما شئت له أشكال عديدة منها العسكري و السياسي و الإقتصادي والثقافي و لكنها تتقاطع بشكل كبير في عديد الأحيان مما يجعل الفصل فيما بينها أو محاولة فهم كلن على حده أمرا صعبا ولكن يمكن الحديث عنها إجمالا بالتطرق لأهمها بل واشدها خطرا على المنطق البشري السوي وهو محور الحديث إلا وهو الثقافي ويسمى اختصارا "الغزو الثقافي" وسنتناوله للسبب التالي :
- غالبًا لا يحدث الغزو الثقافي حتى يحدث الاحتلال بكافة أساليبه :
إن إحتلال اي بلاد تنطلق شرارته غالباً من الغزو العسكري المسلح (إحتلال عسكري) الذي تتلوه تشكيل سلطة سياسية حاكمة موالية للمحتل (إحتلال سياسي) ، دور هذه السلطة هو السيطرة على مفاصل الدولة وأهمها السيطرة اﻹقتصادية على مقدرات البلاد و العباد (إحتلال إقتصادي) والتي تستميل نخبة المجتمع المتمثلة في التجار و أعيان المدن والأرياف من أهل الحل والعقد الذين يتحولون مع مرور الزمن إلى طبقة برجوازية أو ارستقراطية متحالفة مع سلطة الإحتلال بل يرتبط وجودها بوجوده و تدافع عن مصالح المحتل لو تعرضت للخطر (إحتلال ثقافي) ، والسبب في ذلك الولاء المطلق و الدفاع المستميت هو إن الإحتلال بمراحله جعلهم مهيئين للغزو الثقافي وأصبحوا دعاةً لثقافة المحتل في اللغة و الملبس والمظهر الخارجي بل وطريقة فهم الدين والتاريخ الحضاري للأمة وابسط مثال على ذلك هو حملة القائد الفرنسي نابليون بونابرت على مصر والشام (١٧٩٨-١٨٠١ م) المعروفة بالحملة الفرنسية على مصر والتي ورغم قصر مدة الإحتلال وفشله في نهاية الأمر إلا أنه لازال إلا يومنا هذا آثاره باقية، وسأركز على هذه الحملة بالتحديد نظرا لأثارها الخطيرة ليس على مصر والشام أو المشرق العربي بل العالم الإسلامي ككل .
فالغزو الثقافي يبدأ بالتغلغل الخفي في جوهر الدين والعقيدة هو الثغرة الأقوى للأفكار التغريبية .
فحينما يطلع أصحاب الثقافة التغريبية ودعاتها على مصادر التشريع في الإسلام المتمثلة في القرآن الكريم والسنة النبوية متمثلة في أمهات الكتب كصحيح البخاري و صحيح مسلم وكتب السير التي تروي التاريخ الإسلامي فهم عرفوا لا محالة تلك الأمور التي جعلت العالم الإسلامي أو المشرق كما يسمونه قوياً و متماسكاً وعرفوا أسباب انهياره ومن هنا يبدأون في التغلغل في ثقافة الأمة ككل وصولا للإنحلال الأخلاقي وهو ذروة سنام التغريب ، ولذلك اول ما فعله قائد الحملة الفرنسية نابليون بونابرت حينما ركب سفينته وهو في طريقه لإحتلال مصر هو تعلم القرآن الكريم بل تجاوز الحد وأعلن نفسه حاكماً مسلماً واسمى نفسه "بونابردي باشا" واسموه المصريين "الحاج علي نابليون بونابرت" ! ، أليس هو صاحب الرسالة الشهيرة والتي هذا نصها :
” بسم الله الرحمن الرحيم، و لا اله الا الله وحده ولا شريك له في ملكه...
ايها المشايخ والأئمة...قولوا لأمتكم ان الفرنساوية هم أيضاً مسلمون مخلصون وإثباتاً ذلك انهم قد نزلوا في روما الكبرى وخرّبوا فيها كرسي البابا الذي كان دائماً يحّث النصارى على محاربة الإسلام، ثم قصدوا جزيرة مالطا وطردوا منها الكوالليرية الذين كانوا يزعمون ان الله يطلب منهم مقاتلة المسلمين، ومع ذلك فإن الفرنساوية في كل وقت من الأوقات صاروا محبين مخلصين لحضرة السلطان العثماني..أدام الله ملكه...أدام الله إجلال السلطان العثماني أدام الله إجلال العسكر الفرنساوي لعن الله المماليك وأصلح حال الأمة المصرية ”
هذا من الناحية الفكرية ، أما من الناحية العملية فلا يمكن فصل المجتمعات عن قيمها الحضارية والدينية الشرعية إلا بإنشاء مؤسسات وهياكل بإسم الدين عنوةً دون استشارة المجتمع المحلي .
وانا هنا لست ضد بناء مؤسسات دينية شرعية تمثل مجتمعنا الإسلامي المحافظ ولكنني أعني فيما سبق تلك المصطنعة و الشكلية التي تحاول قدر اﻹمكان أن تسيطر على عامة الناس نظراً لشفافيتها وصدقها من الناحية الفقهية فيما لا يؤثر على سلطة الإحتلال في الوقت الذي تكون فيه إما صامتة أو مشرعة لممارسات المحتل في حال استفزت مشاعر الجماهير .
فحينما تكون غضبة الناس شديدة فيكون دورها هو إقناع الناس بالهدوء والركون للسلم , وحالما يدركون عجزهم عن السيطرة على الحراك الشعبي فحينها ليس أمامهم سوى ركوب موجة هذه الهبة الجماهيرية وتبني كافة مطالبها ظاهرياً أما في الحقيقة فهي على إتصال وثيق بالمحتل , بل وتقوم بالتجسس على الشعب الثائر وضرب الأسس التي تجمعوا من أجلها وذلك بتخوين الصف الأول من الثوار بأنهم ليسوا أهل الحق وإنهم يحاربون المبادئ التي قام الحراك على أساسها , ومن هنا تزرع البذرة اﻷولى لإنهيار هذه الحشود الضخمة وتقزيمها فيما بعد مما يؤدي إلى عودة الأوضاع إلى المربع الأول للحراك وهو التذمر و اﻹحباط .
ونادراً ما تتفكك هذه المؤسسات مبكراً كما حدث في مصر حينما أنشاء نابليون بونابرت ديوان القاهرة وهو ديواناً استشارياً من تسعة من كبار المشايخ والعلماء ويرأسه الشيخ عبد الله الشرقاوي باﻹضافة إلى الشيخ إسماعيل البراوي والشيخ يوسف الموصلي والشيخ عبد الوهاب الشبراوي والشيخ سليمان الجوسقي والشيخ أحمد الشرقاوي و أخرون و كان الغرض منه حكم مدينة القاهرة، وتعيين رؤساء الموظفين ، والذي ما لبث أن انهار مع اندلاع ثورة القاهرة الأولى في عام 1798 م و كشف نابليون لوجهه الحقيقي .
- ثورة القاهرة الأولى والوجه القبيح للحاج بونابرت :
كلما حاولت فهم الغربة الثقافية التي تعاني منها مجتمعاتنا الإسلامية انجذب لا شعورياً خلف السياق التاريخي للحملة الفرنسية على مصر والشام، لم لا و نابليون بونابرت ذلك الذي يثير الدهشة في تصرفاته التي لم تتوقف عند إرتداء الملابس الشرقية التي عرفت بها الولايات العثمانية, بل ذهب إلى جامع الأزهر و أدى صلاة الجمعة خلف إمام الجامع الأزهر وأظهر مظاهر الخشوع التي لم تدم طويلا، فلم يطق صبراً على تلك الهجمات التي يشنها البدو والعثمانيين والمماليك غير المؤتلفين معه، وفي 22 أكتوبر عام 1798م, قام سكان القاهرة بثورة سميت "ثورة القاهرة الأولى" فأمر نابليون بقمع الثوار، وتخلى نابليون لفترة عن دور الفاتح المتسامح، فأمر بأن تقوم المدافع الموجودة على جبل المقطم بضرب القاهرة فدكت متاريس وتحصينات الثوار, وضرب الأزهر لكونه مركز الثورة ودخلته الخيول وداست المصاحف, وقتل الجنود كل من وجوده أمامهم واحرقت الكتب ولم تتوقف المجزرة حتى توسل شيوخ الأزهر إلى نابليون حتى يأمر بوقف المجازر فوافق.
هذا الحدث و ثورة القاهرة الثانية التي تلتها بفترة وجيزة وصولاً إلى إعدام الشهيد سليمان الحلبي الذي قتل القائد الفرنسي كليبر ، وليس انتهاءً بالحملة العسكرية التخريبية على الشام في يافا وعكا والناصرة وقانا كشفت الحقد الكامن في نفس المحتل الذي لم يستطع التمسك بالشعائر اﻹسلامية طويلاً حتى ارتكب جرائم لم ينسها التاريخ .
- ترحل الجيوش المحتلة و تبقى بذور الحرب على ثقافة الشعب وعقيدته
إن أشد الآفات فتكاً بالعالمين العربي و اﻹسلامي تلك التي أتت بها الحملة الفرنسية , فعلى سبيل المثال لا الحصر :-
١- نشر عقيدة اﻹرجاء والقدرية :
كان نابليون يُكْثِر في مراسلاته من الاحتجاج بالقضاء و القدر؛ ليُرَهِّب الناس من مخالفته، أو التفكير في مقاومة جيوشه، والخروج من تحت سلطانه، ويَغْرِس في نفوسهم وجوبَ التسليم له، فهو يعتبر نفسَه القَدَر المُحَتَّم الذي قَدَّره اللهُ على أهل مصر والشام، ومن أَبَى الانقياد له فإنما يعارض قدرَ الله في زعمه الكاذب، والنتيجة الحَتْمِيَّة التي أراد ذلك المَخْذول أن يُرَسِّخها في عقول الشعوب المسلمة التي غزاها أن من عارض قَدَرَ الله تعالى؛ فهو كافر.
وكان يُوَظِّف الآيات والأحاديث التي يَلْوي عُنُقها، ويُحَرِّفها عن مواضعها؛ ليؤكد وجوب التسليم له، وزاد في الادعاء، وبَلَغ من جُرأته على الله تعالى أنه كان يذكر في مراسلاته أنه مذكور في القرآن، وأن من قرأ القرآن علم ذلك ولا بد من طاعته .
ومما ساعده على ذلك بروز طبقة العلماء والدعاة المنتفعين, و هم في الحقيقة ليسوا من العلماء أو الأئمة الذي يحضون بالإحترام لدى العامة وهذا مما دفعهم ان يصبحوا مُداهنين لنابليون فكانوا يعينونه في صياغة هذه الخطابات التي يوجهها بالعربية للمسلمين في مصر والشام، ويصبغها بصبغة إسلامية مُحَرَّفة.
٢- وضع الأسس القديمة لبناء كيان صهيوني على أرض فلسطين :
حينما دمر الأسطول الفرنسي في معركة ابو قير البحرية, وبدلا من أن يجر نابليون أذيال الخيبة مع بقايا جنوده ويتوجه إلى فرنسا, سار ببقايا جيشه عبر صحراء سيناء إلى فلسطين مضمراً في نفسه أن ينشئ الدولة اليهودية بها, استجابة لطلب المحافل الباريسية الصليبية الصهيونية.
ففي الرابع من أبريل سنة 1799م خطب نابليون خطبةً شهيرة في صهيوني يافا وحيفا, والقدس الذين انتظروه مع غيرهم من اليهود القادمين من رومانيا قائلاً:
"يا ورثة فلسطين الشرعيين، الأمة العظيمة تناديكم لتستردوا ما سلب منكم بالغزو, أسرعوا لقد حانت لحظة المطالبة بإسترداد حقوقكم المدنية وكيانكم السياسي كأمة إلى الأبد "
والثابت تاريخياً أن هذه الخطبة التي ألقاها نابليون لم تكن موجهة إلى يهوديي فلسطين فقط, ولكنها كانت نداء إلى يهود العالم. فلم يوزع هذا النداء في فلسطين وحدها وحسب وإنما جرى توزيعه في الوقت نفسه في فرنسا, وإيطاليا, والإمارات الألمانية و في إسبانيا، بل إن مستشاريه من زعماء الصهيونية العالمية هم الذين أعدوها له ليقوم بتوقيعها قبل أن تذاع .
ومما يؤكد هذا الكلام أنه وأثناء حصار عكا، نشرت الجريدة الرسمية الفرنسية بيانا من نابليون يدعو فيه اليهود إلى مؤازرة فرنسا، وانتهاز فرصة وجوده في فلسطين لتحقيق آمالهم في التمركز ما بين عكا والإسكندرية.
٣- دخول العقيدة الماسونية للمرة الأولى إلى العالم الإسلامي :
يقول وليم غاي كار ( كان نابليون فقيراً إلى درجة أنه لا يستطيع أن يدفع أجرة غسيل ملابسه، هذا الضابط الصغير المشهور بالقسوة وعدم الرحمة هو من كان يبحث عنه مؤسس إمبراطورية روتشيلد "أمشيل روتشيلد"، و كان نابليون صديقًا للماسوني المتعصب أوجستن روبسبير الذي أدخله إلى عالم الماسونية، وبفضل المجازر التي قام بها أحرز نابليون الدرجة الثلاثين في الحركة الماسونية.
وانشئ أول محفل ماسوني بالقاهرة وسمي محفل "إيزيس" وأوجدوا له طريقة خاصة به تناسب مصر وهي الطريقة الممفيسية أو الطريقة الشرقية القديمة وتمكن هذا المحفل أن يستقطب عددًا من المصريين ويشير المنشور الذي وزعه بائعون على المصريين إلى أنه قد سعى لنشر هذه الأفكار بين المسلمين و كتب فيه ( قولوا لهم 'أي المسلمين' إن جميع الناس متساوون عند الله وإن الشيء الذي يفرقهم عن بعضهم هو العقل والفضائل والعلوم فقط) اي إلغاء فوارق الدين و التقوى تمامًا .
و نجحوا في ضم بعض المصريين من المشايخ من بينهم الشيخ حسن العطار الى المحفل الماسوني الذي أسسه كليبر سنة 1800م، الذي أصبح فيما بعد من أعوان والي مصر فيما بعد محمد علي باشا.
باﻹضافة إلى محاولتهم فرض الإنحلال عند المسلمين من نشر ثقافة تحرر المرأة كالبغاء والسفور وتشجيع نساء الهوى على ارتكاب المحرمات بشكل علني، حيث يعد هذا الأمر من أساليب انتشار الماسونية .
إن هذا السرد هو إجمالا وليس تفصيلا، فما لم اذكره لا عين رأته و لا خطر على بال بشر، فالانحطاط الثقافي و الأخلاقي الذي نشهده ليس سوى تركة هذا الماضي الدموي الذي خلفه لنا العدو المحتل، فحينما ترون من يفتخرون بمحبة من قتل أجدادهم واغتصب جداتهم فاعلموا أن لا نهضة ﻷمتنا بوجود هؤلاء المرتزقة والرعاع عديمي المروءة، إلا إن الخير باقي ما دام الإسلام باقي في ثنايا أرواحنا، لذا لا تخافوا فنحن قادمون.