random
آخر التقارير

الشهيد القسّام .. استلهم ثورة الخطابي وتضامن مع المغرب

كان استشهاد القائد الفلسطيني عز الدين القسام قبل 82 سنة، وبالضبط يوم 20 نونبر 1935، تلك الحادثة التي شكلت لحظة فارقة في النضال الوطني الفلسطيني والعربي بشكل عام؛ ذلك أن استشهاده شكّل تمهيدا لقيام الثورة الكبرى في فلسطين (1936-1939)، التي كانت بداية لظهور الكيان التمثيلي للشعب الفلسطيني الذي سيأخذ أشكالا مختلفة، بدءا بـ"العُصبة القسامية" التي شكَّلها واستمر وجودها بعد استشهاده، حيث قادت الثورة الكبرى، مرورا بتشكيل "اللجنة العربية العليا" في فلسطين بقيادة مفتي القدس أمين الحسيني، وانتهاء بتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية سنة 1964...

وتكمن أهمية سيرة هذا القائد الفذ في أنه كان صاحب رؤية ثاقبة، واجه عبْرها ثلاثة أنواع من الاستعمار؛ الفرنسي في سوريا، والبريطاني/الصهيوني المزدوج في فلسطين المحتلة، ثم الإيطالي في ليبيا، وأخرج المظاهرات تضامنا مع الثورة الليبية التي قادها الشهيد عمر المختار، مثلما قاد تظاهرات تضامنية مع الشعب المغربي الذي كان يواجه عدوان الاستعماريْن الإسباني والفرنسي، خاصة في مرحلة انتقاله إلى فلسطين، قبل أن يستلهم نموذج حرب التحرير الشعبية من تجربة المجاهد محمد عبد الكريم الخطابي.

النشأة والتكوين:
وُلد هذا المواطن العربي في بلدة "جبلة" القريبة من مدينة اللاذقية على الساحل السوري، بعدما نزح جده (مصطفى) من العراق، ليتلقى تعليمه في الأزهر بمصر، حيث تأثر بأستاذه محمد عبده ودعوته التجديدية، وكذا الإرث التنويري لأستاذه جمال الدين الأفغاني؛ كان ذلك سنة 1896، ليعود إلى بلدته أواخر سنة 1906 يحمل شهادة العالِمية، إذ فتحت أمامه مرحلة الأزهر آفاقاً جديدة.

في الأزهر كان القسام وزميله الأديب عز الدين التنوخي يُداومان على دروس الشيخ محمد عبده، ومن خلال هذه الدروس تعرفا على الشيخ رشيد رضا، وغيره من أقطاب الإصلاح بمصر..تأثر بـهم بعدما كان في بلدته جبلة لا يعرف غير مذهب أبيه وطريقته الصوفية القادرية.

وقبل القسام العودة إلى سوريا ليخوض حربا طاحنة في مواجهة الاستعمار الفرنسي أخذت بُعديْن؛ بُعْدٌ فكري تنويري واجه به نظام الباكوات والأفندية الإقطاعي الموروث عن تقاليد الهيمنة العثمانية، مُدافعا باستماتة عن المساواة وعن حقوق الفقراء والفلاحين المهضومة، وداعيا إلى محاربة الأمية والجهل والخرافة في صفوف النساء والرجال؛ وبُعدٌ كفاحي مُسلح لطرد قوات الاحتلال الفرنسي من الشام، حيث كان يجمع الناس في خطبه التي يلقيها في جامع "المنصوري" ببلدته.

مباشرة العمل السياسي والتعبوي:
وهو على تلك الحال لم يستسغ تقسيم القوى الاستعمارية للعالم العربي، إذ غزا الإيطاليون ليبيا وسيطروا على طرابلس سنة 1911، فقاد القسام مظاهرات تأييد للثورة الليبية، قبل أن يقرر بعد أكثر من محاولة جمْع المتطوعين والمساعدات والتوجه نحو ليبيا لدعم المقاومة فيها، بقيادة الشهيد عمر المختار التي استمرت حوالي 20 سنة، حيث كان ضمن عدد من المتطوعين العرب، وضمنهم الأديب المعروف شكيب أرسلان، قبل العودة إلى سوريا ليستثمر خبرته التي اكتسبها هناك في المقاومة.
وبعد احتلال الأسطول الفرنسي مدينة اللاذقية والساحل السوري في أكتوبر 1918، خرج القسام إلى الشوارع يقود الجماهير في بلدته وفي جميع مدن الساحل؛ كما أنه كان أول من حمل السلاح في وجهها، وقاد ثورة في منطقة جبل صهيون.

لكن قوة الجيش الاستعماري لم تترك له مجالا، خاصة بعد تكبيده خسارة فادحة للجيش الفرنسي في معركة "بانيا"، حين قاد القسام هجوما على حاميتها ليقتل 170 جنديا فرنسيا في مارس 1920. وبعد هزيمة السوريين في معركة ميسلون الشهيرة (24 يوليوز 1920)، قرر القسام اللجوء بعدها إلى دمشق، ومنها قرر اللجوء إلى حيفا في فلسطين، ليواصل فيها مشواره التنويري والتعبوي، مُدرسا أحيانا ومأذونا شرعيا أحيانا أخرى، يحرض الناس على الثورة على الاستعمار أينما كان وتحرير الأرض والإنسان.

اختيار القسام مدينة حيفا:
بعد جولة له في مدن وقرى فلسطين، بحثا عن مكان ملائم لبناء إستراتيجيته الثورية، قرر الشهيد عز الدين القسام أن تكون مدينة حيفا مستقرا له لبناء حركته التنويرية والكفاحية لمواجهة تحدي الاحتلال البريطاني لفلسطين ومخاطر الهجرة الصهيونية التي أخذت شكلا استيطانيا طاردا للشعب الفلسطيني من أرضه؛ باعتبار أن المدينة كانت ملتقى للتجارة، وكذا ملاذا للعمال والفلاحين المطرودين من أرضهم بسبب سرقتها منهم بالقوة من طرف المستعمرين الصهاينة بحماية بريطانية صارمة.. وكان تنظيمه للعمال والفلاحين سابقا الإعلان عن تأسيس الحزب الشيوعي الفلسطيني رسميا سنة 1923، ما يشير إلى الوعي التاريخي الذي كان يملكه هذا القائد الثوري.

وهو ما أكده محمد عزة دروزة الذي يعتبر أحد تلامذة الشهيد القسام في "العُصبة القسامية" قائلا: "كانت حيفا مركزاً هاماً من مراكز العمال العرب، الذين كان كثير منهم من مُشرّدي مُزارعي القرى التي بيعت لليهود المستعمِرين وأُجْلوا عنها... وكان لهؤلاء العمال حَيّ خاص مساكنه من التنك والخشب، فأخذ يظهر من هذه الطبقة رجال جهاد منذ سنة 1930م، إذ أخذت تقع غزوات جهادية على المستوطنين ومستعمراتهم في قضاء حيفا، فُهمَ في ما بعد أنها من جمعيات أو حلقات جهادية .. سريّة مُحكمة التشكيل".

وبعد جهود ثلاث سنوات استطاع القسام تكوين اثنتي عشرة حلقة عسكرية تعمل كل واحدة منفصلة عن الأخرى، وتتكون كل خلية من خمسة أفراد، أكثرهم من عمال البناء والسكك الحديدية وعمال الميناء والباعة المتجولين؛ ثم زاد عدد أفراد الخلية في أوائل الثلاثينيات، فأصبحت تضم تسعة أفراد، بعد إخضاعهم لدورات تكوين وتدريب مكثفة، فكرية وعسكرية.. كانت طريقة عملهم تقوم على مبدأ حرب العصابات، الذي استلهمه القسام من تجربة القائد محمد عبد الكريم الخطابي.

دور القسام الكبير في حركة التضامن مع ثورة الخطابي:
رغم أن الشهيد القسام كان سباقا في تجربته المقاومة في مرحلته السورية على تجربة الخطابي، فقد كان لثورة القائد المجاهد محمد عبد الكريم الخطابي شمال المغرب تأثير واضح عليه، خاصة بعد وصول خبر انتصاراته على المستعمرين الإسبان (ستة أشهر بعد انطلاق حركته الثورية بحكم غياب أدوات الاتصال)، وخاصة بعد الصدى الكبير الذي خلّفته معركة أنوال التي وصل صداها إلى المشرق العربي، حيث قاد الشهيد القسام مظاهرات التضامن مع الثورة وجمع لها الأموال والمساعدات. وقد استمر هذا التضامن مع ثورة محمد عبد الكريم الخطابي شمال المغرب، والتي عُرفت باسم "ثورة الريف"، طيلة سنوات اشتعالها، قبل أن يتآمر عليها التحالف الاستعماري الفرنسي الإسباني بمساعدة فيلق من المرتزقة، يقوده الماريشال محمد أمزيان. وقد كان لثورة الخطابي صدى في فلسطين وصل إلى الشعر، إذ صاغ الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان نشيد الثورة الريفية الشهير "في ثنايا العجاج" الذي اتخذه القائد الخطابي نشيدا رسميا للجمهورية الثورية:

في ثنايا العجاجْ والتحامِ السيوفْ

بينما الجوُّ داجْ والمنايا تطوف

يتهادى نسيــــمْ فيه أزكى سلامْ

نحو «عبد الكريمْ» الأميرِ الهمام

ريفُنا غابُنا نحن فيه الأسودْ

ريفُنا نحميه

****

كلُّنـــــــــــــا يُعجبُ بفتى المغربِ

كلُّنـــــــــــــا يُطَرَبُ لانتصار الأبي

أين جيشُ العِدا إن دعا للجهادْ؟

أصبحوا أعبُدا بالسيوف الحِداد

ريفُنا غابُنا نحن فيه الأسودْ

ريفُنا نحميه

****
طالما استعبدوا وأذلّوا الرقابْ

أيها الأيِّدُ جاء يومُ الحساب

فليذوقوا الزُّعافْ بالظُّبا والأَسَلْ

ولْنُعَلِّ الهتافْ للأمير البطل

ريفُنا غابُنا نحن فيه الأسودْ

ريفُنا نحميه.

وهو الشاعر نفسه الذي صاغ قصيدة "مَوْطِني" (تم اعتمادها باعتبارها النشيد الوطني الفلسطيني).

هذه الانتصارات أعطت صدى كبيرا للثورة التي قادها الزعيم الخطابي، إذ طلب منه المئات من العلماء المجتمعون في القاهرة قبول إعلان اسمه خليفة للمسلمين بعد سقوط الخلافة العثمانية في تركيا.

وقد عاد تأثير الخطابي قويا بمناسبة تنظيم مؤتمر القدس الأول يوم 7 دجنبر 1931، الذي كان بدعوة من مفتي القدس الحاج أمين الحسيني، والزعيم الوطني عبد العزيز الثعالبي (حضره 153 مدعوا ضمنهم شخصيتان من المغرب هما محمد بنونة والمكي الناصري)، حيث كان على رأس الشخصيات المدعوة، لولا أن الاستعمار الفرنسي منعه من الحضور بحكم خضوعه للإقامة الجبرية في جزيرة لاريينيون.

وبعد صدور الظهير الاستعماري المعروف باسم الظهير البربري يوم 16 ماي 1930 وانطلاق احتجاجات عليه في المغرب، كان لتلك الاحتجاجات صدى في فلسطين المحتلة، لعب فيها الشهيد القسام دورا بارزا، خاصة مع وجود وفد من الشباب المغاربة في نابلس، قدموا شهادات مثيرة عن التعاطف الفلسطيني مع محنة الشعب المغربي في مواجهة الاستعمار ومخططاته للسيطرة على البلد ومقدراته. وقد كان دور عز الدين القسام حاسما في تلك الاحتجاجات، بحكم قدراته الخطابية الكبيرة والمؤثرة من جهة، وباعتبار تنظيمه لحركة منظمة في أهم المدن الفلسطينية حينها، عُرفت فيما بعد باسم "العُصبة القسامية"، التي سيكون لها دور كبير ومؤثر في المشهد الفلسطيني بشكل عام.

"العصبة القسامية" وارتباط بعض رموزها بالزعيم عبد الكريم الخطابي:
بعد تمادي العصابات الصهيونية في الوصول إلى فلسطين والسيطرة على الأرض فيها والاعتداء على أهلها، أسس الشهيد عز الدين القسام "العُصبة القسامية" التي ستقوم بدور كبير في مواجهة الاستعمار الانجليزي وعصابات المستوطنين الصهاينة؛ وهي التنظيم الذي كان يضم عربا (مسيحيين ومسلمين) بمذاهبهم المختلفة، يقاومون الغزو الصهيوني والاستعمار البريطاني، مثلما تتصدى الآن الكنائس العربية في فلسطين لحملة منع الآذان في المساجد الفلسطينية. وهو تنظيم بناه الشهيد القسام على أساس تجربة حرب العصابات الشعبية التي وضع أسسها الزعيم الخطابي.

لما استوى تنظيمه العسكري على عُوده قرر الشهيد القسام بدء العمل المسلح لمواجهة الاستعمار وإسقاطه (كان قد باع منزله لكي يشتري بثمنه سلاحا لمقاومة الاستعمار!)، لتبدأ صدامات كبيرة مع قوات الاحتلال البريطاني والعصابات الصهيونية التي تتقاطر على البلاد، حتى ارتقى شهيدا يوم 20 نونبر 1935 في أحراش "يَعْبُد" قرب مدينة جنين؛ وكان لاستشهاده أثر بالغ في اندلاع الثورة الكبرى التي استمرت 3 سنوات (1936-1939)، والتي شكلت أساسا لبناء هيكل قيادي للكيان الفلسطيني يحمل لواء مقاومة الاستعمار، وكانت نقطة تحول كبيرة في مسيرة الحركة الوطنية الفلسطينية بعد ذلك.

حدد القسام مسؤوليات القادة من بعده، ووزع عليهم مناطق فلسطين، وتأخر امتداد الثورة بعد وفاته بسبب مقتل عدد من القياديين في الجماعة واعتقالهم. وخلال خمسة شهور (بين وفاة القسام في 20\11\1935م وبين إعلان متابعة الجهاد في أبريل سنة 1936م) قام أتباع القسام بدراسة خطة عمل شاملة لاستمرار الثورة حتى تتحقق أهدافها، وقاموا بالانتشار في الجبال، وتنظيم الجماعات السرية في أنحاء فلسطين، وخصوصاً في الشمال. كما قام المثقفون من أتباع القسام بتحريض الشعب على المقاومة وعدم الاستسلام.

غير أن المثير في الأمر أن الارتباط بالتجربة الثورية للزعيم الخطابي لم ينته باستشهاد القائد عز الدين القسام، بل استمر مع الأطر التي نشأت في أحضان تجربة "العُصبة القسامية" وأجوائها النضالية، وهو ما يمكن تلمسه في ثلاثة نماذج على سبيل المثال لا الحصر:

1) الحاج أمين الحسيني: مفتي القدس والزعيم الفلسطيني الذي برزت شخصيته عقب استشهاد عز الدين القسام، إذ كان من أبرز قادة الثورة الكبرى (1936-1939) التي انبثقت عنها "اللجنة العربية العليا" التي انتخبته رئيسا لها، وهو الذي سبقت له دعوة الأمير الخطابي لحضور مؤتمر القدس الأول أواخر 1931.. كان أول عمل قام به زيارة الخطابي في القاهرة، بعد نجاح مجموعة من الشباب العرب في تمكين الخطابي من التحرر من الأسر والنزول بمصر باقتراح من الدكتور عبد الجبار الجومرد (العراقي الذي كان حينها مديرا للشؤون السياسية في جامعة الدول العربية بالقاهرة، وسيصبح أول وزير خارجية بعد ثورة 1958 التي قادها عبد الكريم قاسم).

وبحلول يوم 29 نونبر 1947 كان أمين الحسيني ببيت الزعيم الخطابي بالقاهرة يطلب منه إعلان الجهاد لتحرير فلسطين باعتبار مكانته وتجربته، وهو ما قام به الأمير في خطاب شهير، مُرفِقا قوله ببعث كتائب من المتطوعين العرب من المشرق والمغرب، يقود إحداها الضابط المقرب منه خريج أكاديمية بغداد العراقية الهاشمي الطود، وهي الكتيبة 13 الشهيرة. وقد بلغ عدد المتطوعين من المغرب العربي فقط، كما أكد ذلك الأستاذ علال الفاسي، خمسة آلاف متطوع، وصل غالبيتهم إلى فلسطين بفعل نداء الزعيم الخطابي؛ وهي كتلة المتطوعين التي سيعمل الخطابي في ما بعد على جعلها أساسا لجيش تحرير المغرب العربي، الذراع العسكري لـ"لجنة تحرير المغرب العربي" التي أعلنها يوم 5 يناير 1948. وقد بقي مفتي القدس على علاقة وطيدة بالخطابي طيلة مُقامه بالقاهرة، يأخذ برأيه ويستشيره في كل ما يتعلق بفلسطين.

2) أحمد الشقيري: كان أول رئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية بعد قرار الرئيس جمال عبد الناصر تأسيسها في قمة القاهرة 1964، وكان ثالث ثلاثة من الذين صاغوا البيان الذي تضمّن اللاءات الثلاث في القمة العربية بالخرطوم بعد هزيمة 67 (إضافة إلى شفيق الحوت وسعيد السبع). كان ضمن نشطاء "العصبة القسامية"، وبحكم امتهانه للمحاماة، اشتهر بدفاعه عن المعتقلين من أبناء العُصبة عقب الحملة التي تعرضوا لها من طرف قوات الاحتلال البريطاني بعد استشهاد عز الدين القسام، وكان من أبرز نشطاء الثورة الكبرى (1936-1939).. حافظ على قُربه من الزعيم عبد الكريم الخطابي في القاهرة أثناء توليه مهمة الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية.. وأثناء شغله منصبا في الأمم المتحدة ركز جهوده على الدفاع عن القضية الفلسطينية وقضية تحرير المغرب العربي، حيث كان ينسق مع المناضل المغربي المهدي بنونة الذي كان قد تعرف عليه أثناء دراسته بمدرسة النجاح في نابلس، ضمن بعثة من الشباب المغاربة يبلغ عددهم 14 شابا.

3) سعيد السبع: مدير دائرة التنظيم الشعبي في منظمة التحرير الفلسطينية وأحد مؤسسيها البارزين.. أبوه هو الحاج "نمر السبع"، رئيس بلدية قلقيلية، المعروف بتمويله لحركة عز الدين القسام، وشكل اعتقاله بعد استشهاد القسام صدمة له وهو ابن التاسعة من عمره.. بدأ عضوا في حزب البعث العربي الاشتراكي واستقال منه عقب الخلاف الناشب داخله في المؤتمر الثالث (1959) حول العلاقة بالثورة المصرية، ليغادر لاجئا سياسيا إلى القاهرة.. كان رفيقا لصدام حسين ومجموعة من اللاجئين العرب، وتعرف على كثير من قادة التحرر العربي هناك، وفي مقدمتهم الزعيم محمد عبد الكريم الخطابي، الذي كان يسمع ببطولاته وهو طفل صغير في حواري قلقيلية.. وقد كان كثير الزيارات لبيت الخطابي في القاهرة... حكى لي ابنه نضال قصة طريفة نقلها له والده سعيد، أثناء مرافقته لتشييع جثمان الزعيم محمد عبد الكريم الخطابي، إذ عبر له أحد الأعضاء في حركة الضباط الأحرار الأردنيين عن إعجابه بالمقبرة التي سيُدفن فيها الأمير، والتي كانت مُرتبة بشكل مبهر..بعد أسبوع توفي هذا الضابط، فأبلغ سعيد السبع الوزير كمال الدين حسين بما سمعه منه، فنقل كلامه إلى الرئيس جمال عبد الناصر، فأصدر قرارا بدفنه إلى جوار الزعيم الخطابي.

وبعد سنوات من وفاة الخطابي كانت مفاجأة سعيد السبع كبيرة حين استمع لجواب الزعيم الصيني ماوتسي تونغ، أثناء استقباله لوفد فلسطيني في بيكين (1971)، حين سؤاله عن إستراتيجية عملية ينصح بها الفلسطينيين الذين يخوضون ثورتهم التحريرية في ظروف قاسية، فأجاب: "رفاقي الأعزاء، جئتم تريدون أن أحدثكم عن حرب التحرير الشعبية، في حين أنه يوجد في تاريخكم القريب عبد الكريم الخطابي، الذي هو أحد المصادر الأساسية التي منها تعلمت هذه الحرب".

ولم يكن ذلك بالأمر الغريب، فعبد الكريم الخطابي خلف وراءه تراثا مليئا بالدروس والتجارب؛ حرب العصابات وتنظيم الجيش الشعبي القادر على خوض أطول المعارك بالاعتماد على التمرين الذاتي داخل بيئة حاضنة...

إستراتيجية تبادل التضامن في إطار وحدة المعركة مع الاستعمار والامبريالية:
لم تكن حركة التضامن التي قاد عبرها الشهيد عز الدين القسام الشعب الفلسطيني من أجل إسناد المغرب وثورته التحريرية التي قادها الزعيم الخطابي عملية معزولة عن فعل تضامني مماثل قام به المغاربة تجاه قضية اعتبروها مركزية منذ وقت مبكر من الزمن؛ فرغم حالة الاستعمار والحصار التي كان يعيشها المغاربة نهاية العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي فإنهم لم يَعدِموا أدوات لتجسيد التضامن مع الشعب الفلسطيني، عبر الاعتصام في المساجد أو الخروج في المظاهرات أو البيانات والمراسلات أو جمع التبرعات المالية والعينية لإسناد جُهد الصمود والمقاومة هناك. ويمكن استقراء ذلك في الشهادات والوثائق التي ترجع إلى تلك المرحلة؛ يمكن أن نستحضر منها على سبيل المثال لا الحصر تلك الرحلة التي تحدث عنها الراحل المهدي بنونة لشابين فلسطينيين في أنحاء مختلفة من منطقة الشمال، وجمعهما مبلغا كبيرا من المال لصالح الشعب الفلسطيني، لم يستطيعا أن يجدا مقابله لدى البنك المركزي الإسباني في تطوان المحتلة حينها.. أو فيما أورده الباحث مصطفى الغديري من وثائق لجمع التبرعات للشعب الفلسطيني (في مقال منشور في العدد الثاني من مجلة "أُسطور" التاريخية المُحكمة).

كل ذلك أسندته استفادة الشهيد عز الدين القسام من الإستراتيجية القتالية التي وضع أسسها الزعيم محمد عبد الكريم الخطابي، الذي كان قد جعل من قضية فلسطين أولوية له، سواء أثناء خوضه لحربه التحريرية ضد الاستعمار الإسباني والفرنسي في العشرينيات من القرن الماضي، أو بعد تحرره من الأسر الفرنسي وإقامته في القاهرة يوجه حركات التحرر العربي وينسق بين أطرافها مشرقا ومغربا.

إنها إستراتيجية تبادل التضامن بين أطراف يمثلون ضحية واحدة للظاهرة نفسها، إنها الظاهرة الاستعمارية المقيتة.. تلك الظاهرة التي كان يقول عنها الزعيم محمد عبد الكريم الخطابي: "ستنحسر كلما حقق شعب من الشعوب حُلمه في الحرية. في أي مكان تعرض فيه الاستعمار لضربة من الضربات إلا وينعكس صداها إيجابيا في مكان آخر يخوض الشعب فيه المعركة نفسها". لذا كان هناك فهم مشترك لهذه المعادلة بين الشهيد عز الدين القسام والزعيم محمد عبد الكريم الخطابي؛ معركة التصدي للاستعمار وتحقيق الحرية والكرامة واحدة مهما اختلفت أسماؤه أو البلدان التي يوجد فيها، لذا خلّد القائدان اسمَيْهما منقوشا في ضمير الأمة والإنسانية.

HESSPRESS
google-playkhamsatmostaqltradent