random
آخر التقارير

خائنو الحقيقة.. كيف يخدع علماء البيولوجيا الجماهير؟

في عالم يتفوق فيه الغرب حضاريًا على كافة الحضارات الأخرى، ترتبط ذهنية المغلوب دائمًا بمنظومات الغالب القيمية والمعرفية، ولهذا صنف ابن خلدون في مقدّمته (باب في أن المغلوب مولع أبدًا بتقليد الغالب). في هذا السياق لا تكاد تذكر أحد أهم مرتكزات الحضارة الغربية، ألا وهي العلم التجريبي الطبيعي، ولا تُطرح قضية يُذكر فيها عبارة (أثبتها العلماء) إلّا وتصير هذه القضية أو تلك الفكرة من القطعيات التي ينبغي الإيمان بها إيمانا تاما؛ حيث إن العلم التجريبي -الغربي- أثبتها.

لكن ما مدى "حيادية" العلم و"موضوعيته"؟ وهل العلم فعلًا يمكن أن يصل إلى درجة القطع المطلق خصوصًا مع منظومته المؤسساتية بالغة التعقيد؟ يتفق الباحثان الأميركيان نيكولاس واد وويليام برود أن "التزوير في العلم يجب أن يُتوقع ألا يكون أكثر أو أقل من التزوير في المجتمع بشكل عام" (1). ويوضّح ستيفن جاي جولد السبب قائلًا إن "التزوير غير الواعي يُحتمل أن يكون متوطنا في العلم، بما أن العلماء بشر متجذرون في سياقات ثقافية، وليسوا آلات توجه نحو الحقيقة الخارجية"(2). أمّا أستاذة علم الاجتماع دينا فاينستاين فتؤكد ذلك قائلة: "إن التزوير، رغم أنه مخالف لأهداف العلم كنشاط ثقافي، إلا أنه متوطن بنيويًا في العلم المؤسس في مجتمعاتنا المعاصرة"(3).

دين العلم
"العلم هو الدين الجديد"
(مارتن هيدغر)
هل يمكن اعتبار العلم التجريبي دين؟ رغم عدم منطقية السؤال إلّا أن ثمة من طرحوه بالفعل وقدّموا له جوابًا نهائيا، فعلى سبيل المثال تقول أستاذة الفلسفة يمنى طريف الخولي إن الإيمان بالتقدّم العلمي والتفوق التقني للحضارة الغربية قد بلغ حدّ أن المنهجية التجريبية المادية "تمّ رفعها فوق أي نقاش أو جدل، فاحتلّت في العلم منزلة التسليم بالوحي المنزل في الدين، فلا نقاش في هذا ولا جدال في ذاك"(4). ثمّ تستطرد قائلة: "كما أنَّ العصمة المنسوبة ذات يوم إلى الكتاب المقدس أو البابا الأعلى وحده انتقلت الآن إلى عقل الإنسان نفسه"(5).

 لويس باستور (مواقع التواصل)
ومنذ حوالي مئة وخمسين عامًا كتب الكيميائي الفرنسي المرموق لويس باستور عبارة صادقة عندما كان يدعو إلى الاهتمام بالعلم الطبيعي كونه الديانة الجديدة التي سترتقي بالبشر إلى أعلى درجات الحكمة، فكتب باستور: "يجب على السلطة أن تهتم بتلك المؤسسات المقدسة التي تسمى المختبرات. كما طلب أن يتم مضاعفة أعدادها؛ لأنَّها معابد الثروة والمستقبل، فهذه هي حيث الإنسانية تنمو وتصبح أفضل وأقوى" (6). وهي نفس الرؤية التي شاركها معه الفيلسوف الفرنسي ليكومت دي نوي بقوله: "إن ثقة الناس بعلماء الطبيعة اليوم هي ثقتهم بالكهنة في العهد القديم" (7).
ينقد روبرت شلدراك، الحاصل على درجة الدكتوراه في الكيمياء الحيوية من جامعة كامبردج، هذه الرؤية التي تضع العلماء والعلم التجريبي محل المقدس الذي لا خطأ فيه، يوضح شلدراك واصفا الإيمان الأعمى بعلماء الطبيعة قائلًا: "فالعلماء -الطبيعيون- بالنسبة إليهم مثال الموضوعية، حيث يتحرر العقل العلمي -عندهم- من القيود الطبيعية للأجسام والمشاعر والالتزامات الاجتماعية، إنَّهم يمتلكون علمًا رياضيًا شبه إلهي بالكون والزمان والمكان، بل حتى بأكوان متعددة خارج كوننا.. يُشكِّل العلماء سلطة كهنوتية تفوق سلطة الأديان، وتعمل على حفظ هيبتها وقوتها من خلال اللعب على جهل البشـر وخوفهم". ثمّ يختم كلامه قائلًا: "إنَّ العلماء -بطبيعة الحال- هم بشـر يخضعون لقيود الشخصيات، والسياسة، وجماعات الضغط، والموضة، والحاجة إلى التمويل" (8).

التزوير في أروقة العلم.. جون دارسي نموذجًا
من الواضح أن العامل البشري ركن أساسي من عملية العلم التجريبي، فكيف ينقض هذا العامل دعوى الموضوعية العلمية المطلقة؟ يمكن اعتبار نموذج جون دارسي مثاليًا في التمثيل لهذه النقطة. فأملًا في ارتقاء السلّم الأكاديمي وطمعًا في حيازة منصب علمي راقٍ بصورة سريعة، قد يلجأ بعض صغار الباحثين إلى الاحتيال من أجل حيازة الشهرة والحصول على المناصب العلمية. يُعتبر الأميركي جون دارسي، أحد أشهر الأمثلة على هؤلاء، فبعد تخرجّه قام دارسي بالعمل كمساعد باحث في جامعة هارفارد الطبية، وخلال أول 15 شهرًا من عمله هناك قام دارسي بنشر أكثر من 15 ورقة بحثية(9)، وفي خلال سنتين فقط، قام بنشر أكثر من مئة ورقة بحثية، وهو ما يعدّ رقمًا خياليًا بأي حال من الأحوال(10).

 جون دارسي (مواقع التواصل)
ذهل العلماء من قدرات دارسي الفائقة، وعدّوه عالمًا استثنائيًا وأصبح محطّ أنظار المجتمع الطبي برمته، إلى أن تم اكتشاف سرقته لأحد البحوث في إحدى الليالي، واعترف بالسرقة بالفعل، إلّا أنه رغم ذلك ظل مستمرًا لأن إدارة هارفارد اعتبرت أن نظام المجتمع العلمي قادر على الكشف عن الأخطاء بدقة، ومن ثمّ لا يصح إسقاط مكانته العظيمة بسبب خطأ واحد، ورغم هذا الخطأ الفادح والبيّن إلّا أنه لم يتم اتخاذ أي إجراء ضده.

ظل دارسي في مختبره، وفي إحدى مشاريعه البحثية قام بالحصول على تمويل تجاوز الـ 700 ألف دولار، واستمرّ عمله كأن لم يكن شيئا، وبعد ستة شهور من حادثة سرقته الأولى، تم اكتشاف عدة سرقات أخرى ارتكبها، وتبيّن أن جلّ أبحاثه منذ أن كان طالبًا جامعيًا قد تمت فبركتها، أحيانًا بالاختراع من اللاشيء وأحيانًا بتطويل مدة الاختبار من ساعات قليلة إلى أسابيع مديدة، وأحيانًا بالتلاعب في النتائج والأرقام، بعد هذا الاكتشاف الثاني توقف عمله البحثي وتم طرده ولاحقًا تم سحب رخصة مزاولته لمهنة الطب(10)، لكن بقى السؤال: كيف تم تمرير أكثر من 100 بحث منشور في مجلات علمية محكمة دون اكتشاف فبركته وقيامه بالتزوير؟ وربما يكون هناك سؤال أهم: كم جون دارسي الآن يقبعون بيننا؟
كيف يؤثر علماء الطبيعة في نتائج تجاربهم؟
لا يقف الطموح والهوى وراء التزوير فحسب، وإنما يمتدّ الخطأ إلى الحالات النفسية للباحثين كذلك. في حديث ألقاه العالم البريطاني الحائز على جائزة نوبل في الطب، بيتر مدور، على راديو (BBC)، سأل سؤالًا: "هل الأوراق العلمية تزوير؟" وأجاب: "نعم"(11). باعتبار أن بنية الورقة العلمية الحالية في رأيه تسيء تمثيل عملية التفكير التي تصاحب التجربة العلمية ومن ثمّ فإنها تشوّه مفهوم العلم تمامًا.
اتضح من تجربة الفئران التي قام بها عالم النفس "روبرت روزنثال" أن العامل النفسي وتوقعات العالِم المسبقة له أثر، لا في استنتاجات البحث فقط وإنما أيضًا في نتائجه
مواقع التواصل
وحتى إذا تم اعتبار بنية الورقة العلمية الحالية (ملخص- مقدمة- الإجراء- نتائج- استنتاجات) سليمة، فإن العامل البشري بخصائصه النفسية يتدخل في نتائج البحث مهما ادّعى من موضوعية وحيادية. في تجربة أقيمت بجامعة هارفارد لتوضيح مدى أثر معتقدات وتوقعات العالِم المسبقة في نتائج التجربة(12)، أجرى أستاذ علم النفس روبرت روزنثال تجربة ملفتة قام فيها بتقسيم بعض تلامذته إلى فريقين، وأعطى لكلّ فريق منهم فئران تجارب وطالبهم بوضع الفئران في متاهات تقليدية، وأخبر كلا الفريقين أن الفئران تم انتقائهم بعناية من سلالات مختلفة عبر أجيال متعاقبة، وأخبرهم أن فئران الفريق الأول ذكية في الخروج من المتاهات وفئران الفريق الثاني أقل ذكاءً من مثيلاتها في الفريق الأول.
لكن الحقيقة أن الفئران جميعها كانت تنتمي إلى سلالة واحدة من جيل واحد، وقد اختارهم الأستاذ روزنثال بطريقة عشوائية من بين فئران التجارب المعملية، بما يعني أن أداء الفئران واقعيًا لا فرق فيه في كلا الفريقين، لكن المدهش أن الفريق صاحب الفئران التي قيل لهم أنهم ذكية سجّل مراقبوها أنها أنجزت المتاهة أسرع من المجموعة الأخرى، رغم أن العامل المتغيّر الوحيد كان نفسية الطلّاب وتوقعاتهم المسبقة قبل إجراء التجربة، استنتج روزنثال من هذه التجربة أن العامل النفسي وتوقعات العالِم المسبقة لا تؤثر في استنتاجات البحث فقط وإنما أيضًا في نتائجه.
ثوابت العلم متغيّرات في الحقيقة
قام الباحث روبرت شلدراك بالنظر في أحد الثوابت التأسيسية المثبتة في الأوساط العلمية ألا وهو ثابت سرعة الضوء، فوجد أنَّ القانون الثابت لسرعة الضوء الذي قد تم تحديده عمليًّا في الأعوام من (1928م) إلى (1945م) قد انخفض بحوالي عشرين كيلومترًا في الثانية عمَّا قبل هذه الأعوام، ثم ارتفع مرة ثانية منذ عام (1948م) إلى ما هو عليه الآن. إثر هذا الاكتشاف المزلزل لأركان العلم التجريبي المعاصر، توجّه روبرت إلى رئيس الهيئة العلمية الرسمية البريطانية المختصة بتحديد الثوابت العلمية، وسأله عن سبب هذا التغيّر فيما يُفترض أنَّه ثابت كوني؟ فردّ عليه قائلًا: "لقد اكتشفت أكثر الفترات إحراجًا في تاريخنا العلمي"، ثم سأله روبرت عن كيفية أو آلية علاجهم لهذا التغيّر في الثابت؟ فكان ردّه بسيطًا وصادمًا: "لقد قمنا بتثبيت سرعة الضوء علميًّا"(13) ولم يقدّم أي تفسير لهذا التثبيت.

يتساءل روبرت عن سبب تغيّر ثابت مهم كهذا الثابت في الأوساط العلمية؟ ثم طرح أنَّ السبب لا يخرج عن احتمال من اثنين: إمَّا أنَّ العلماء الطبيعيين قد أخطأوا في جل تجاربهم المحددة لسرعة الضوء، وإمَّا أنَّ ثابت الضوء ليس ثابتًا أصلًا كما هو متخيل، وإنَّما يتغيَّر بتغير الزمان والمكان، وفي كلا الحالتين؛ فإنَّ أمرًا كهذا يُعدُّ كارثة في الوسط العلمي؛ لأنَّه لا يسقط النتائج المبنية على سرعة الضوء فحسب، وإنَّما يسقط الوحدات الثابتة لقياس المسافات من الأساس؛ لأنَّ هذه الوحدات تم تفريعها من سرعة الضوء ابتداءً. كل هذا دفع روبرت إلى تأليف كتابه (وهم العلم The Science Delusion) الذي نقض فيه بعض الأساطير التي يقوم عليها العلم الطبيعي المعاصر.
الإجماع المضلّل
أحد أكثر المصطلحات تداولًا في مجال العلم الشعبوي (Popular Science) هو مصطلح "الإجماع" الذي عادةً ما يُستخدم للدلالة على حجّية نظرية ما وقطعيتها، لكن ما مدى صحّة الإجماع في المجال العلمي التجريبي؟
يذكر أستاذ الجراحة حسام الدين حامد مثلًا أن المؤمنين بقضية الاحتباس الحراري يوردون لفظ (إجماع) العلماء حول هذه القضية، بينما يُبيِّن الاستقراء العلمي للقضية أنَّ (97 %) من العلماء يؤيد قضية الاحتباس الحراري، و(3 %) فقط من العلماء يُنكرونها، ممَّا يعني أنَّ لفظ الإجماع ليس في حقيقته إجماعًا، وإنَّما هو أقرب لمصطلح (قول الجمهور) في الفقه الإسلامي، أي أكثرية العلماء(14). وهكذا يتبيَّن الفرق بين لفظ (Consensus) الذي يعني وجود بعض المخالفين، ولفظ (Unanimity) الذي يقتضي عدم وجود مخالف، ويتبيَّن التضليل الذي يمارسه مُدَّعو العلم حتى يوهموا العوام أنَّه لا يوجد خلافٌ علميٌ معتبرٌ في قضية ما.
يقول أستاذ علم العقاقير جورج باريو تحت عنوان "العلم المبني على الإجماع ومراجعة الأقران" أن استخدام لفظ "الإجماع" في كثير من الأحيان مضلل، يقول موضحًا: "إنَّني متأكد أنَّ معظمنا قد واجه مفهوم العلم الطبيعي المبني على الإجماع وعواقبه، في الحقيقة إنَّ مراجعي المقالات العلمية في المجلات والتقديم للمنح البحثية غالبًا ما يستعمل عبارة "هذا إجماع في المجال" كوسيلة لتسويغ الحجر على الأفكار التي لا توافق على ما يعتقدونه"(15).

المصادر

المقال منقول عن موقع ميدان
google-playkhamsatmostaqltradent