دعنا نبدأ بمحاولة للمقارنة بين ثلاثة من لاعبي كرة القدم المشاهير كـ "بيليه" و"مارادونا" و"ميسّي"، هل يمكن أن نقترح، بعد أن نقوم بدراسة مهارات كل منهم، أن كرة القدم تتقدم مع الزمن؟ من جهة أخرى، ماذا لو عقدنا مقارنة بين أم كلثوم، كمغنية، وكاظم الساهر مثلا، أو سيناترا، وصولا إلى "كولدبلاي"، هل يمكن القول إن مستوى الغناء يتقدم؟ لكن، ماذا لو حاولنا المقارنة بين نموذج بطليموس لتركيب المجموعة الشمسية، النموذج الذي يضع الأرض في المركز ثم تدور حولها الكواكب والشمس، ونموذج كوبرنيكوس، الذي يضع الشمس بالمركز، مرورا بفيزياء نيوتن ثم النسبية العامة، هل يمكن هنا أن نقول إن العلم يتقدم؟
ثورات علمية
لكن حينما نتأمل الأمر من مسافة قريبة بعض الشيء تبدأ نوعية جديدة من التساؤلات في الظهور، فمثلا، إلى أين يتقدم العلم؟ في تلك النقطة يقترح الفيلسوف ألكسندر بيرد، في مقالة بعنوان "التقدم العلمي" بدليل أوكسفورد لفلسفة العلم أن هناك ثلاثة توجهات أساسية تشرح مقصد العلم من التقدم، الأول هو التقدم بحل المشكلات، أي أن العلم كلما تقدم، كلما قدم حلولا لعدد أكبر من المشكلات، من جهة أخرى يرى البعض أن العلم يتقدم نحو الحقيقة، وهي نظرة دلالية (Semantic) تعني أنه كلما اقتربنا من الحقيقة كلما حققنا تقدما، ثم نظرة ثالثة تقول إن العلم يتقدم بالإضافة إلى كم المعرفة العلمية، وهي نظرة أبستمولوجية (معرفية).توماس كون يرى أن حل المشكلات هو فقط وظيفة العلماء خلال فترات العلم القياسي |
لكن مع الوقت تظهر بعض حالات الشذوذ والتي لا يمكن للعلماء أن يجدوا لها تفسيرا مهما كرروا التجارب أو أضافوا فروض مساعدة، هنا يفقد المجتمع العلمي الثقة في مفرداته التي يعتمد عليها، ويضطر بعض العلماء لتغيير طريقة تفكيرهم جذريا بحيث يقوموا بالخروج بشكل ما عن الفروض الأساسية المكتوبة في مراجعهم والتي يعتمدون عليها كل يوم في ممارسة مناهجهم، تلك هي الثورة، وعي الانتقال من نموذج إرشادي (Paradigm) إلى آخر يلعب بقواعد جديدة.
لكن البعض، في الحقيقة، وبينما ينفي توماس كون ذلك عن نفسه، ينظر إلى فكرة الباراديجمات على أنها تقول إن العلم لا يتقدم بالأساس، وذلك لأن قواعد الانتقال من نموذج إرشادي لآخر تتعلق فقط بحالة من الفوضى ذات جذور سيكولوجية، حيث للوهلة الأولى قد نرى أن انتقال النظام البطلمي للكوبرنيكي كان سلسا له أسس عقلانية، لكن كوبرنيكوس قد وجدت نظريته -بالمعايير العلمية وقتها- معارضة حقيقية، فمثلا لم تنجح تجارب التزيّح (Parallax) في إثبات تغير موضع النجوم مع الشهور، وذلك لأن النجوم بعيدة للغاية لكن أحدا لم يكن يعرف ذلك في تلك الفترة من تاريخ العالم.
العلم عند توماس كون لا يتراكم، ولا علاقة لكل قطعة منه بما سبقها، حيث يخضع لفكرة اللاقياسيةIncommensurability)5) ، فقد يجلس كل من نيوتن وأينشتين وفاينمن ليتحدثوا عن الكتلة، بينما يفهم كل منهم الكتلة على أنها شيء مختلف، ويصف في بداية كتابه "بنية الثورات العلمية" أن مشكلته كانت دائما في اعتبار أن المنهج العلمي عند أرسطو -مثلا- خاطئ، أو ساذج، فأرسطو بالتأكيد كان ذكيا بما فيه الكفاية، وتاريخ العلم مليء بأذكياء آخرين وقعوا فيما نتصور الآن أنه خطأ، كذلك مليء بنظريات متضادة خرجت تحت ظل نفس المنهج العلمي القائم، هل يؤكد ذلك أن العلم خاطئ؟ هنا تكون الإجابة أنه ليس ثمة صواب أو خطأ، ولكن هناك مجموعة من القواعد والمفاهيم الأساسية التي تكون حالة ما، حالة متكاملة مرتبطة كشبكة واحدة متسقة مع ذاتها تسمى "البارادايم".
حل المشكلات
بذلك، فإنه رغم ميل كون إلى قبول تطور العلم عبر حل المشكلات كطريقة لتقدمه، ورغم أن تلك الآلية تبدو للوهلة الأولى أكثر وضوحا من غيرها، إلا أن تلك المشكلة ذات العلاقة باللاقياسية، والتي تجعل من المقارنة بين النماذج الإرشادية من أجل عد المشكلات التي قام البارادايم السابق بحلّها مقارنة بتلك التي حلّها الحالي مستحيلة، لأن مشكلات النموذج الإرشادي الحالي غير مفهومة -بالأساس- من قبل السابق، وبذلك فإن المقارنة، الاختيار، والحقائق نفسها، بالنسبة لتوماس كون خاضعة للنموذج الإرشادي القائم، وقد تكون هناك حقائق ضمن بعض النماذج الإرشادية، هي نظريات في نماذج إرشادية أخرى.لاري لودان يرى أن المشكلات التي تواجه العلماء ليست فقط تجريبية، وانما مفاهيمية بحتة لا علاقة لها بالتجريب |
من جهة أخرى، فإن لاري لودان، الفيلسوف الأميركي، وإن اختلف مع توماس كون حول مدى صلابة "النماذج الإرشادية" فهو كذلك يرى أن حل المشكلات هو آلية الحكم على التقدم العلمي، فيقول إن المشكلات التي تواجه العلماء ليست فقط تجريبية، وانما هناك مشكلات مفاهيمية بحتة لا علاقة لها بالتجريب، لكن حلّها يساوي في الأهمية تلك التجريبية أيضا، فمثلا كان أكثر ما لفت انتباه لوك وبيركلي وليبنتز تجاه نظرية نيوتن ليس مدى دقة نتائجها التجريبية، لكن ظهور بعض الغموض المفاهيمي الخاص بالنظرية، فكانت تساؤلاتهم هي: ما الفضاء المستقل؟ وما هو الزمن المطلق؟ وكيف أمكن تصور التأثير عن بعد بين الأجسام عبر الجاذبية؟ وما هي تلك القوة التي يقصدها نيوتن؟ بل إن ليبنتز تساءل عن كيفية الانسجام الذي حققته نظرية نيوتن مع براعة الله في إبداع العالم!
لذلك يقول لودان إنه كلما ازداد الوضوح المفاهيمي في النظرية -وليس الإتفاق التجريبي فقط- وجدت النظرية فرصة أكبر للبقاء، وإن الفاعلية الكلية لنظرية علمية تساوي عدد المشكلات التجريبية ذات الوزن والتي تحلها النظرية مطروحا منه المشكلات الشاذة والمفاهيمية التي تتسبب فيها، ومن تلك النقطة يطور لاودن نموذجا جديدا لتطور العلم، وتقدمه، يبني نفسه على ما يسمى بتقاليد الحث (Research traditions)، وهي تشبه نماذج كون الإرشادية لكنها أكثر مرونة، فالعلاقات بين تقليد البحث ونظرياته المكونة له ليست علاقات لزوم، إنما هي فقط علاقات دعم وتبرير عقلاني وتحديد نطاقات.
لذلك يقول لودان إنه كلما ازداد الوضوح المفاهيمي في النظرية -وليس الإتفاق التجريبي فقط- وجدت النظرية فرصة أكبر للبقاء، وإن الفاعلية الكلية لنظرية علمية تساوي عدد المشكلات التجريبية ذات الوزن والتي تحلها النظرية مطروحا منه المشكلات الشاذة والمفاهيمية التي تتسبب فيها، ومن تلك النقطة يطور لاودن نموذجا جديدا لتطور العلم، وتقدمه، يبني نفسه على ما يسمى بتقاليد الحث (Research traditions)، وهي تشبه نماذج كون الإرشادية لكنها أكثر مرونة، فالعلاقات بين تقليد البحث ونظرياته المكونة له ليست علاقات لزوم، إنما هي فقط علاقات دعم وتبرير عقلاني وتحديد نطاقات.
بوبر والتكذيب
مع لودان وكون، رغم اختلافه الشديد معهما، يتفق كارل بوبر أن العلم ليس تراكميا، لكن فكرته الأساسية تتبنى وجهة نظر لها علاقة بالاقتراب من الصدق (truthlikeness)، لكن كارل بوبر، في مركز حركة التقدم العلمي، يضع آداته الشهيرة المسماة بالقابلية للتكذيب (Falsifiability)، حيث يميل "كارل بوبر" إلى وجهة نظر تطورية حينما يصوغ فلسفته العلمية، فالمقاربة البيولوجية هنا تزودنا بطريقة مناسبة لتقديم فكرتين أساسيتين عن تطور العلم وهما: التوجيه يتم فقط من داخل البنية أي لا مؤثرات خارجية، والانتخاب بين النظريات أو الفروض العلمية يتم عبر القابلية للتكذيب.من وجهة النظر تلك، لا نستطيع توقع مستقبل محدد أو هدف نهائي للعلم، كما أن الحديث عن "حقيقة" ما يصبح أشبه ما يكون يالإمساك بالماء، فالمعرفة كلها فرضيات متتالية، وذلك لأن العلم يتقدم للأمام عبر عملية مستمرة من تفنيد الادعاءات، سواء كانت حدوسا جديدة أو نظريات قائمة بالفعل، بالضبط كما يتقدم التطور للأمام عبر الانتخاب الطبيعي، بنبذ التكيفات الرديئة واستمرار الجيدة.
وفي البيولوجيا يبدأ التطور من مشكلة تتعلق بتغير بيئي أو نقص في الموارد أو شيء آخر، يدفع ذلك لنوع من التنافس بين الأفراد ثم ينجح الأفضل بينهم في إقامة عملية تزاوج آمنة، فيتمكن، دون غيره، من تمرير صفاته الجينية، ثم يواجه الأفراد الجدد مشكلات جديدة كنتيجة لعلاقاتهم الجديدة مع البيئة الجديدة، فتظهر ضغوط جديدة، وهكذا. يمكن النظر ناحية تقدم العلم بنفس الطريقة، حيث نبدأ من مشكلة ما، ثم-عبر المحاولة والخطأ- نبدأ في حلها، نفترض حدوسا، ثم نفندها، وتظهر بعض النظريات أقدر من الأخرى على تحمل التمحيص العقلاني، هنا تظهر مشكلات جديدة من وراء تلك المعارف الجديدة، وتستمر العملية، نعم تقترب من الحقيقة، لكنها لا تصل لها أبدا.
وجهات نظر أخرى
عند تلك النقطة يمكن لنا أن نسأل عن وجهة نظر أخرى لتطور العلم، فمثلا كل من بوبر (في دراسة متأخرة له بعنوان عقلانية الثورات العلمية) وتوماس كون قد اتفقا على أن العلم ليس متصلا، بمعنى أنه بناء على مبنى سابق، وانما إعادة بناء بشكل مستمر، لكن في المقابل فإن تيّار الوضعية المنطقية كان يرى أن العلم تيار متصل، ويمكن فهم ذلك في إطار إنكار الوضعية المنطقية لتاريخ العلم ككل، ووضع الفلسفة كآداة لوضع البنية المنطقية السليمة للعلم، فالعلم بالنسبة للوضعيين المناطقة هو العلم الحديث، بالتالي يغيب عن نظرهم تماما نظريات كانت قد انمحت تماما مثل النموذج البطلمي أو الميكانيكا الأرسطية مثلا.أما المدرسة الواقعية (Realism) في فلسفة العلم فعلى تنوع التوجهات بداخلها تتنوع كذلك الأفكار عن تقدم العلم، فيرى أنصار الواقعية الساذجة (Naive Realism) مثلا أن العلم يتقدم بمراكمة الحقائق شيئا فشيئا، من جهة أخرى ينشأ تيّار لا يؤمن بالتراكم لكنه يوزع تقدم العلم إلى الإقتراب من الصدق (truthlikeness)، في المقابل يُرجع الآداتيون تقدم العلم إلى مدى قدرة النظرية العلمية على تحقيق نتائج تجريبية، في تلك النقطة يمكن أن نستخدم مثالا يضربه بيير دوهيم، الفيلسوف والفيزيائي الفرنسي، حينما يقول إن تقدم العلم يشبه أمواج البحر أثناء المد، فرغم أن الموجات تعلو وتنحسر، إلا أن هناك ارتفاعا صغيرا جدا في كل مرة.
في كل الأحوال فإن العلم، على غير ما يمكن أن تتوقع، ليس مفهوما بعد، لواء الآلية التي يعمل بها العلماء، أو تلك التي يتقدم بها العلم، وحينما تتأمل ذلك قليلا سوف تتعجب حقا، حيث، كيف لا نفهم بعد أعظم ما أنتجت البشرية إلى الآن؟ ثم، هل يعد عدم فهمه مشكلة؟ ماذا لو كان العلم -على عكس ما يبدو- هو سبيلنا إلى أسوأ ما فينا؟ هنا تلعب الفلسفة دورا هاما في الحديث عن العلم، فبينما لا يهتم العالم، أو دعنا نقول "ليس من المفترض ألا يهتم"، بفلسفة العلم، تهتم هي بدراسة هذا الكيان من وجهات نظر مختلفة.
المقال لموقع ميدان