في أوج فترة ازدهار الخلافة الإسلامية كان لعلماء المسلمين الريادة في العلوم والفنون واللغة والفلك والطب، حتى إنهم صدَّروا العلم إلى أوروبا في العصور الوسطى، فيروي لنا الدكتور «سلامة موسى» في كتابه «ما هي النهضة» عن ارتحال مئاتٍ من طلاب العلم الأوروبيين إلى الأندلس كي يتعلموا فيها على يدِ من صنعوا النهضة الحقيقية، فيقول: «ثم كان هناك أيضًا هذه التُهمة التي كان يتهم بها المفكرون مثل «روجر بيكون» إذ اتهم هذا الراهب الذي دعا إلى التجربة العلمية والاختراع بالإسلام؛ لأن المسلمين كانوا في ذلك الوقت دعاة العلوم».
مُشيرًا إلى أن كل فكرة جديدة كان يتهم صاحبها بالكفر لأنه لم يكن مسيحيًا مُخلصًا، وإلى دور المسلمين وعلمائهم في نهضة أوروبا التي بدأت منذ ذاك في عصور الظلام ولم تتوقف حتى يومنا هذا؛ لكن كيف تعاملت «الخلافة الإسلامية» نفسها – في عديدٍ من مراحلها – مع مفكري هذا الزمان خاصةً هؤلاء الذين عارضوا الخلافة الإسلامية سياسيًّا؟
على الرغم من أنّ السلاطين والأمراء كانوا يفتخرون حينًا أمام بعضهم البعض بانضمام العلماء والمفكرين إلى بلاطهم الملكي، فيغدقون عليهم من نِعمهم وكرمهم ليبلغوا مكانة عظيمة، إلا أنهم في أحيانٍ أخرى كانوا يتهمون من لم يسر على هواهم بالزندقة، خاصةً هؤلاء الذين اشتهروا بالفلسفة والفقه والأدب وكانت لهم كتابات سياسية، فقطعت أوصالهم، وذبح وسجن كل من عارض الخلافة سرًا، لتكون النهاية الحقيقية مأساوية للكثير من المفكرين المسلمين.
«والله لأحرقنك بنار الدنيا قبل نار الآخرة».. هكذا قُتل ابن المقفع
ذات يوم أُرسل ابن المقفع إلى «سفيان بن معاوية» حاملًا رسالة من الأمير «عيسى بن علي»، فلما وصل ابن المقفع وجلس في مقصورته بالديوان دخل إليه سفيان صائحًا: «لقد وقعت والله»؛ فقال ابن المقفع: «أنشدك الله أيها الأمير»، فرد عليه سفيان: «أمي مغتلمة كما ذكرت، إن لم أقتلك قتلة لم يقتل بها أحد قط!»، ثم أمر بتَّنُّورِ – وهو تجويف أسطواني كالفرن يُخبَز فيه – وأمر بملئه وقودًا حاميًا، ثم أمر خادميه فقطعوا من ابن المقفع عضوًا وألقوه في التنور وهو يراه، ثم أخذ في تقطيعه عضوًا عضوًا وهو على قيد الحياة، شاهدًا على ميتته وجسده الذي تأكله النار، حتى صار ابن المقفع في النهاية رفات أعضاء؛ فكانت تلك الميتة البشعة والمتوحشة هي مصير واحدٍ من أعظم علماء عصره كما رواها «أبو عبد الله الجهشياري» في كتابه «كتاب الوُزراء والكُتاب».
كان «روزبه بن دادوبيه» الشهير بابن المقفع يجمع بين ثقافتي العرب والعجم، فهو فارسي الأصل من «الأهواز» نشأ على مجوسية أبيه، ولكنه تضلع في اللغة العربية وعلومها، وعندما ازدهر نجم الدولة العباسية، اتصل ابن المقفع بعيسى بن علي وهو أميرٌ عباسي ووالي الكوفة؛ فأسلم على يديه وسمى نفسه «أبا محمد عبد الله» وأصبح كاتبًا في ولايته، يقول عنه الدكتور «فكتور الكك» في كتابه «ابن المقفع: أديب العقل» إنه كان مُتقنًا للغة العربية والفارسية الساسانية إتقانًا تامًا، فكان فذًا بين أقرانه، نافذ البصيرة، حاد الذكاء، نقل كتبًا كثيرة من الفارسية إلى العربية كان على رأسها كتاب «كليلة ودمنة» والذي يصفه الدكتور طه حسين بأنه جمع بين حكمة الهند الخالدة، وجهد الفرس في نقلها عنهم، ولغة العرب البلاغية، لتتوارثها الأجيال فيما بعد، حتى أصبحت جزءًا من التراث الإنساني الخالد؛ فيقول ابن المقفع ذاته في مقدمة كتابه: «لخصوا فيه من بليغ الكلام ومتقنه على أفواه الطير والبهائم والسباع؛ فاجتمع لهم من ذلك أمران، إذ جمعوا فيه لهوًا وحكمة: فاجتباه الحكماء لحكمته، والسخفاء للهوه، وأما المتعلمون من الأحداث وغيرهم، فنشِطوا لعلمه وخف عليهم حفظه».
ولكن إن كان لابن المقفع تلك المكانة الرفيعة بين أبناء جيله فلمَ قُتل بتلك الطريقة البشعة على يد سفيان؟
يحكي عن ذلك الدكتور «عبد اللطيف حمزة» في كتابه «ابن المقفع»، أن أبا محمد عبد الله الشهير بابن المقفع كان شهيدًا من شهداء الحرية، مستكملًا: «دافع عن هذه الحرية في مجال العقيدة حتى اتهمه الناس بالزندقة، ودافع عنها في مجال السياسة حتى قالوا إنه لقي مصرعه على يد الخليفة المنصور بسبب الرسالة «الهاشمية» التي انتقد فيها ابن المقفع سياسة هذا الخليفة».
تعود قصة مقتل ابن المقفع كما رواها «الجهشياري» إلى زمن الخليفة العباسي «أبي جعفر المنصور»، خاصةً عندما انقلب عليه عمه «عبد الله بن علي» وقاتله على الخلافة؛ إذ هرب عبد الله إلى أخويه سليمان وعيسى بن علي بالبصرة، فخشي عليه شقيقاه من انتقام المنصور، وهو الأمر الذي دعاهما إلى مكاتبة الخليفة حتى يؤمنهما على عمه عبد الله، وكان ابن المقفع كاتبًا لدى عيسى بن علي والذي كلفه بدوره بكتابة رسالة الأمان.
احتاط ابن المقفع في كتابة الأمان، وبالغ في احتراسه بطريقة أغضبت الخليفة العباسي خاصةً مع وجوب توقيعه عليها؛ إذ جاء فيها: «وإن أنا نلتُ عبد الله بن علي أو أحدًا مما أقدمه معه بصغيرٍ من المكروه أو كبير، أو أوصلت إلى أحد منهم ضررًا سرًا أو علانيةً، على الوجوه والأسباب كلها، تصريحًا أو كناية أو بحيلة من الحيل، فأنا نفيٌ من محمد بن علي بن عبد الله، ومولود لغير رشدة، وقد حل لجميع أمة محمد خلعي وحربي والبراءة مني، ولا بيعة لي في رقاب المسلمين». فاستشاط الخليفة غيظًا، وسأل عن كاتب الرسالة، وأمر سفيان بن معاوية أن يأتي برأسه.
والحقيقة أن هذا السبب على كبره لم يكن الوحيد الذي أحلَّ دم «ابن المقفع»، إذ يُقال إن سفيان بن معاوية وهو والي البصرة كان يضطغن على ابن المقفع لأسبابٍ كُثر منها ما يذكره دكتور «عبد اللطيف حمزة» من أن ابن المقفع كان يسيء لسفيان كثيرًا؛ إذ كان يسأله عن الشيء بعد الشيء فإذا أجاب، قال له: «أخطأت» وضحك منه، حتى اغتاظ سفيان منه واشتد غضبه خاصةً بعدما قال له ابن المقفع: «يا ابن المغتلمة والله ما اكتفت أمك برجال أهل العراق حتى تعدتهم إلى أهل الشام!»، ومن هذه الأشياء وأشباهها اشتد حنق سفيان عليه لدرجة جعلته يقسم على قتله إن واتته الفرصة لذلك.
أما عن زندقة ابن المقفع والتي تم اتهامه بها قبيل وفاته، فلها أصلٌ يرجع إلى حرية الفكر التي بلغت أوجها إبان الدولة العباسية، خاصةً مع ظهور المعتزلة الذين تسلحوا بالمنطق والفلسفة اليونانية وناقشوا العقيدة الإسلامية مناقشةً فلسفية تناسب العقل المنطقي، ورفضوا كل ما لم يتناسب مع التفكير العقلاني، وهو ما أتاح لابن المقفع حينها الفرصة لعرض أفكاره بحرية، فكانت الديانة المجوسية – ديانة الفرس – تملأ عقله ويحن إليها قلبه كما يصف لنا «عبد اللطيف حمزة»؛ إذ ظهر ذلك في مناظراته الدينية بينه وبين أقرانه من علماء البصرة، كما ظهر أيضًا في باب «برزويه» من كتاب كليلة ودمنة والذي يعتقد العلماء أنه كان من إضافات ابن المقفع بالكتاب، كما أنه يشرح الكثير عن شخصية المفكر والكاتب وعقيدته، إذ يقول على لسان بروزيه: «فلما خفت من التردد والتحول رأيتُ ألا أتعرض لما أتخوف منه المكروه، وأن أقتصر على عمل تشهد النفس أنه يوافق كل الأديان».
لكن الزندقة وحدها لم تكن هي الأساس في مقتل هذا العالم حتى وإن تناقلتها الناس، ووردت في كتب الزنادقة الممنوعة حينها على لسانه، بل يرى «عبد اللطيف حمزة» أن السبب الحقيقي وراء مصرعه كان معارضته سرًا لخلافة المنصور، وأنه كان يكره رجال هذه الخلافة الجديدة فكان لا يمتنع عن التشهير بهم والسخرية منهم.
«هذا رأس الكافر المُشرك الضال أحمد بن نصر الخزاعي»
بقي الرأس منصوبًا ببغداد، والبدن مصلوبًا بسامراء ست سنين إلى أن أُنزل، وجمع في سنة سبع وثلاثين بعد المائتين، فدفن رحمة الله عليه.
هكذا روى الحافظ أبو عبد الله شمس الدين الذهبي في كتابه «سير أعلام النبلاء» مشهد مقتل الإمام «أحمد بن نصر الخزاعي» في محاكمةٍ هزلية أشبه بهذا النوع الذي أجاده ويليام شيكسبير في أعماله الأدبية؛ إذ تقدم الخليفة الواثق بالله في خُطا ثابتة نحو «الخزاعي» المُقيد أمامه بالحبال سائلًا إياه: «أترى الله في القيامة؟»، أجابه: «هكذا جاءت الرواية»، فرد عليه الواثق قائلًا: «ويحك! أتراه كما يُرى المحدود المُتجسم، ويحويه مكان ويحصره ناظر؟ أنا كفرتُ بمن هذه صفته». ثم اتجه إلى الحضور سائلًا إياهم: ماذا تقولون فيه؟
فأحل دمه قاضي الجانب الغربي، واتهمه الحضور بالجنون واختلال العقل، فأمر الواثق خدمه بأن يأتوه بالصمصامة – وهو سيف في نهايته مسامير مسمورة – واتجه نحوه قائلًا: «ما أراه إلا مؤديًا لكفره، قائمًا بما يعتقده»، فمدوا له الخدم رأسه بالحبال ورفع سن السيف ونحر عنقه.
أما عن تفاصيل تلك الليلة وسبب مقتل «الخزاعي» فيرويها ابن كثير في كتابه «البداية والنهاية»؛ إذ يقول عن ابن نصر إنه كان إمامًا كبيرًا له مكانته بين أئمة السنة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، الذين ذاع صيتهم إبان «محنة خلق القرآن»؛ والتي ابتدأها الخليفة العباسي المأمون وذلك بعد أن استأثر المُعتزلة على عقله وزينوا له مذهبهم، فظهرت الدعوة حينها إلى القول بخلق القرآن، أي أن القرآن غير مُنزل ومن خالف هذا الرأي حُبسَ وضُربَ وعُزِل من وظيفته.
استمر هذا الوضع في عهد الخليفة المُعتصم، وعندما تولى الواثق بالله أمر الخلافة، حذا حذو سلفه في حمل الناس على القول بخلق القرآن، وكان «أحمد بن نصر الخزاعي» من أهل العلم والديانة ممن يدعو إلى القول إن القرآن مُنزل وغير مخلوق، واستطاع بدعوته هذه أن يجمع حوله الآلاف ممن يؤمنون ويؤيدون مذهبه ويرفضون فكر المعتزلة، وهو الأمر الذي شجعه في النهاية لأن يدعو المسلمين لبيعته والخروج على الخليفة؛ فيقول عن ذلك ابن كثير: «فلما كان شهر شعبان من هذه السنة، انتظمت البيعة لأحمد بن نصر الخزاعي في السر على القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر، والخروج على السلطان لبدعته ودعوته إلى القول بخلق القرآن».
كان الأمر أشبه بثورة مُنظمة اتفق فيها الجميع على الخروج في الليلة الثالثة من شهر شعبان – ليلة الجمعة – تدق الطبول في الليل حتى يلتف الناس حول الخزاعي لإتمام بيعته ومفاجأة الخليفة، وفي ليلة الخميس، شرب اثنان من رجال تلك الدعوة وسكروا فظنوا أنها الليلة الموعودة وأخذا يضربان على الطبل في الليل، فسمعهم الحرس وأبلغوا نائب الخليفة، فتم القبض على الخزاعي في نفس الليلة مُساقًا إلى الخليفة الواثق بالله مُكبلًا بالحبال، فأحل دمه ليكون عبرةً وموعظة.
الإمام أحمد بن حنبل.. لماذا عُذب وجُلد في سجون المعتصم؟
يقول الجلاد: «لقد ضربتُ أحمد بن حنبل ثمانين سوطًا، لو ضُربَت فيلًا لهدته». إذ أمر الخليفة المُعتصم بضربه بين يديه، حتى يقول بخلق القرآن، فلما رأى تمنعه وإصراره أمر جلاديه بإشغال سوطهم؛ فلم يكتفوا بإدخال الإمام سجن بغداد، بل ضربوه ضربًا شديدًا حتى نال جسده عظيم الأذى؛ وتخلعت يداه من شدة الضرب.
قال عنه الحافظ شمس الدين الذهبي في كتابه «سير أعلام النبلاء»: «هو الإمام حقًا وشيخ الإسلام صدقًا، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل»؛ إذ كان ابن حنبل من فقهاء المُسلمين وأحد الأئمة الأربعة، وصاحب المذهب الحنبلي في الفقه الإسلامي.
عاصر ابن حنبل «محنة خلق القرآن» منذ بدايتها على يد المُعتزلة، وفي ثلاثة من الخلفاء الذين آمنوا بما جاء به المُعتزلة من فكر وهم «المأمون والمعتصم والواثق بالله»، ويروي لنا تفاصيل تلك المحنة «ابن الجوزي» في كتابه «مناقب الإمام أحمد» قائلًا إن الخليفة المأمون كتبَ إلى صاحب الشرطة ببغداد يأمره بأن يمتحن الناس في عقيدتهم، فامتحنهم، وسجن كل من امتنع عن التصريح بخلق القرآن، وكان من بينهم الإمام «أحمد بن حنبل» إذ حُمل مقيدًا إلى الخليفة المأمون، وحينها سُأل: «إن عرضتُ عليك السيف تُجيب؟ فقال: لا»؛ فمكث في السجن حتى مات الخليفة، فظن حينها أن الغمة قد زالت، إلا أن الخليفة المعتصم قد سار على نهج أخيه، واستفحلت المحنة في عهده.
مكث الإمام في السجن سنتين وأربعة أشهر حيث عُذب وجُلد شهورًا طويلة؛ وبعد أن أطلق الخليفة سراحه في شهر رمضان من عام 221هـ، مكث في بيته حتى تعافى من آثار الضرب، ثم باشر التدريس والفتوى وحضور الجمعة حتى مات المُعتصم، وتولى من بعده ابن أخيه الواثق بالله؛ إلا أنه لم يتعرض للإمام «أحمد بن حنبل» واكتفى بإرسال نائبه إليه ينهاه عن الاجتماع بالناس، فأمره بأن يلزم بيته وألا تطأ قدماه أرضًا تقترب من الخليفة، وأن يمتنع عن الجمعة وإلا فسينزل به من العذاب أضعاف ما قاساه في عهد المعتصم، فاختفى الإمام عن الأنظار حتى وفاة الخليفة الواثق.
الحلاج.. جُلد وصُلب وقطعت أطرافه من خلاف
في 24-25 ذي القعدة من عام 309هـ تحديدًا في مقاطعة خراسان – إقليم في إيران الحالية – اجتمع عددٌ لا يحصى من الناس أمام دار الشرطة، ليشاهدوا عن قرب مأساة الحلاج وموته البطيء؛ إذ جُلد أمام هذا الجمع 100 جلدة حتى اهترأ جلده وما تأوه، وقطعت يداه وقدماه من خلاف وهو لا يزال حيًا يشعر، ثم رفع على الجذع مصلوبًا، وتُرك هكذا حتى صباح اليوم التالي ينتظر ضربة الرحمة، ليصيح جمع الحاضرين: «اقتله، ففي قتله صلاح المسلمين»، لتسقط رأسه عن جسده أخيرًا؛ فجمعت أعضاؤه وأحرقت، وألقوا رماده في نهر دجلة، وعُلقت الرأس في بغداد.
هكذا روى «لويس ماسينيون» مشهد الإعدام في كتابه الجامع «آلام الحلاج»، مُفسرًا الروايات التي أشيعت عن سبب مقتله، على اختلافها، ولماذا قُتل بتلك الطريقة المروعة تحديدًا؟
كان «الحسين بن منصور الحلاج» شاعرًا صوفيًا عُرف بشعره فى العشق الإلهي، وقد عاصر الخلافة العباسية حين بدأت بالأفول، يقول عنه «ابن الأثير» في كتابه «الكامل في التاريخ» إنه في مبتدأ حاله عُرف عنه الزهد والتصوف، وكانت له كرامات؛ إذ يخرج للناس فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف، وحيكت حوله الأساطير، فقيل إنه يخرج يديه فارغة إلى الهواء ويعيدها مملوءة بالدراهم، وأنه مشعوذ وساحر تطيعه الجن، وقال البعض الآخر إن سبب مقتله هي دعوة وصلت إلى الوزير حامد بن العباس تفيد بأن الحلاج يدعي الربوبية، وأنه يحيي الموتى ويسخر الجن له فيطيعونه، ولكن هل كانت محاكمة الحلاج بغرضٍ ديني هو ادعاؤه الربوبية أم أن القلاقل السياسية في هذا الوقت هي التي مهدت الطريق للإعدام؟
اختلفت الروايات على الحادثة التي من أجلها صُلبَ الحلاج، إذ يشير المؤرخ «ماسينيون» إلى أن حادثة «أنا الحق» تلك التي صاح فيها الحلاج من سُكرته قائلًا «أنا الحق»، فاتهموه أنه يدعي الربوبية لأن الحق اسم من أسماء الله الحسنى، لها تفسير آخر في الثقافة الصوفية، إذ يعتقد الصوفية أن العارف من الله بمنزلة شعاع الشمس، منها بدأ وإليها يعود ومنها يستمد ضوءه، وهو ما سنلاحظه في كتابات الحلاج: «والله ما طلعت شمسٌ ولا غربت إلا وحبّـك مقـرون بأنفاسي *** ولا خلوتُ إلى قوم أحدّثهـم إلا وأنت حديثي بين جلاسي».
اعتقد الحلاج في وحدة الشهود، إذ يشهد جمال العالم على تجلي الله في كل شيء، ووحدة الموجودات؛ إذ لا موجود إلا الله، ويستكمل المؤرخ بأن مفهوم الفناء في الصوفية يعني أن روح الصوفي تفنى في روح معشوقها وهو الذات الإلهية، وأن الحلاج عندما صاح من سكرتِه بالعشق الإلهي «أنا الحق»، كانت ذاته في تلك اللحظة فانية. وكان استنتاجه بأن الحلاج لم يدعِ الربوبية حقًا، بل أفنى روحه في العشق الإلهي، فهو كما يقول عنه «ماسينيون»: «المُحب وحده هو الذي يُجلد، ويُسجن، ويُقطع من خلاف، ويتوضأ بدمه مصلوبًا مُحترقًا ومتناثرًا في السماء، لكي يصل إلى محبوبه».
أما عن أزمة الحلاج فقد كانت في وقتٍ تعاني منه الخلافة الإسلامية الاضطرابات السياسية والأزمات الاقتصادية الطاحنة؛ ففرضت الضرائب على العامة وارتفعت أسعار الخبز بشدة، مما عجَّل بمجموعة من الثورات والاحتجاجات داخل دولة الخلافة، وفي ذلك الوقت رأى كثير من الوجهاء في الحلاج المُلهم الخفي وكان من بينهم أمراء وولاة الأمصار، الذين تبادلوا مع الحلاج رسائل الإرشاد الروحي، وكان يشاع أن الحلاج قد اتخذ صف الثوار في الأحداث المتوالية مما أزعج الوزير حامد بن العباس منه، فعمل على اعتقاله عام 301هـ إلا أن الخليفة المقتدر وأمه حالا دون ذلك، إذ تم عزل الوزير حامد عن منصبه ولم يعُد إليه إلا في عام 308هـ جنبًا إلى جنب مع أحد أنصار الحلاج وهو «ابن عيسى»، فكظم حامد بن العباس غيظه حتى واتته الفرصة في عام 309هـ، ليتخلص من ابن عيسى والحلاج معًا، بإعادة فتح قضية الحلاج، وحينها استطاع تقليب الخليفة المقتدر على «ابن منصور» في تلك الفترة حتى يوافق على إحلال دمه، فكان الحلاج ضحية قضية سياسية كبرى أثارتها دعوته العامة.