random
آخر التقارير

السندباد ... وتاريخنا الضائع




في صيف عام 2014 كنت أتواصل مع الدكتور أنطوان زحلان، أحد مؤسسي منظمة المجتمع العلمي العربي وعضو مجلس الأمناء فيها، حول مشروع تنموي للمنظمة في الصومال وآخر في غزة، حين قال لي: لقد اطلعت اليوم على مقال هام نشرته مجلة Scienceعن السندباد، أنصحك بقراءته.

السندباد!! مجلة العلوم الأشهر تنشر مقالاً عن السندباد، ذلك البحار العربي الشجاع والمغامر الذي يجوب البحار البعيدة والغريبة (وهي ما يسمى اليوم المحيط الهندي) ومغامراته في جزرها وسواحلها مع سكانها وكنوزها، كيف؟ نحن عرفناه في قصص للأطفال قرأناها ونحن نتعلم القراءة في مدارسنا الابتدائية، وكان ذلك آخر العهد به، فما لمجلة العلوم الأمريكية بسندبادنا؟

أجاب: عندما أهملنا تاريخنا، جاءوا يبحثون فيه من أجل تاريخهم.

نعم، تاريخنا. لم يكن العرب أمة مهملة على أطراف الحضارات كما يُراد تصويرها اليوم، بل كانوا في قلب التاريخ الإنساني والحضارة، ليس فقط في العلوم الطبيعية والطب، بل في دورهم الحضاري والثقافي والاقتصادي وفي دورهم الأساسي في التجارة العالمية وربط الشرق بالغرب. لكن بُعد الجامعات العربية عن التأصيل والرؤية الحضارية للأمة جعلها تابعاً ومستهلكاً حتى للعلم والبحث العلمي. فنحن لا نبحث إلا فيما يبحثون ولا نهتم إلا فيما يهتمون، نفكر لهم ونبحث لهم وننشر لهم وبلغتهم، وإذا احتاج الأمر، سافرنا وانضممنا لمراكزهم وضمن مشاريعهم. لا يُلقى باللوم هنا على الباحثين ولكن على غياب الرؤية والمشروع الحضاري العربي عن من يديرون أمور هذه الأمة العظيمة، وعن مجالس جامعاتها.

ا

لورقة المنشورة في مجلة العلوم بعنوان: "الإبحار في بحار سندباد" لأندرو لاولر، تسلط الضوء على مسار بحثي جديد وهام، يقول فيها: " حتى وقت قريب، لم تحظ حكايات سندباد باهتمام كبير لدى علماء العلاقات بين الشرق والغرب في العصور الوسطى". هذا المسار البحثي الجديد يجد اهتماماً واسعا في مراكز بحوث عالمية في الولايات المتحدة وألمانيا وغيرها، وتمول الجامعات تلك المشاريع بملايين الدولارات. تلك البحوث يشترك فيها علماء الآثار والغوص والبحث عن السفن، وتحليل العينات بالطرق العلمية المتنوعة، بالإضافة إلى علماء التاريخ والاجتماع وغيرهم، بل حتى علماء الليزر والجينات والوراثة.

يقول الكاتب:" تُظهر الأدلة الجديدة أنه منذ فترة2000 سنة قبل الميلاد حتى وصول الأوروبيين عام1498 ربطت شبكة المحيط الهندي مجتمعات متنوعة في ثلاث قارات، وحفّزت التنمية الصناعية والتغيرات الثقافية في العصور الوسطى، من أطراف جنوب شرق آسيا إلى سواحل أفريقيا". ويطمح الباحثون في هذه المشاريع إلى تتبع كيفية انتقال النباتات والحيوانات والسلع التجارية بالإضافة إلى الأفراد والأفكار عبر المحيط لأكثر من ثلاثة آلاف سنة.

لقد توصلت الدراسات إلى أدلة على وجود تبادل تجاري بين الهند ودول شرق آسيا وبين العرب في شبة الجزيرة العربية ومن ثم العراق والشام ومصر وشرق أفريقيا أدّى إلى نقل الكثير من أنواع النباتات مثل الذرة والدخن من أفريقيا إلى آسيا، كما نقلت بعض الحيوانات المستأنسة من الهند إلى أفريقيا، وانتقلت القرفة وجوزة الطيب من جنوب آسيا إلى الشام ومصر.

كما انتقلت عبر المحيط الهندي وعلى سفن عربية، كسفينة السندباد، المهارات والصناعات والأيدي العاملة والمواد الخام بين مدن آسيا ومدن أفريقيا والمدن العربية في العراق والشام ومصر ومنها إلى تجارة البحر المتوسط وأوروبا.

إذن، لقد لعب العرب دوراً محورياً في ربط الشرق بالغرب عبر الرحلات البحرية في المحيط الهندي والرحلات البرية من موانئ جنوب الجزيرة والخليج العربي إلى حواضر العراق والشام ومصر وصولاً إلى الدولة الرومانية. ليس فقط نقل البضائع وإنما نقل الأفكار والثقافات والحضارة والعلم.

ويتساءل الكاتب، ما نوع السفن التي قامت بهذه الرحلات؟ ويجيب: "استنادًا إلى القليل من الحطام الذي تم العثور عليه حتى الآن، تقول لوسي بلو عالمة الآثار البحرية بجامعة ساوثامبتون بالمملكة المتحدة إنها سفينة نموذجية من عصر سندباد تحمل ألف ضعف الوزن الذي يمكن أن تحمله الإبل وتتطلب عمالة بشرية أقل بكثير مقارنة بقافلة طريق الحرير البري. مثال على ذلك، سفينة من القرن التاسع تحطمت قبالة ساحل إندونيسيا في بحر جاوة، تلخص التحول العالمي من طريق البر إلى المحيط الهندي في العصور الوسطى، ووفقاً لهورتون، صُنعت السفينة على الطراز العربي وكانت تحمل حمولة من البضائع الصينية وبنيت من الأخشاب الأفريقية. ظهر حطام آخر في مزرعة جمبري في الضواحي الجنوبية الغربية لبانكوك، حيث بدأ فريق برئاسة إربيم فانتشارانغكول (Erbprem Vatcharangkul) رئيس قسم الآثار تحت الماء في تايلاند أعمال الحفر وتم الكشف عن سفينة يبلغ طولها 35 مترًا على الأقل تم بناؤها على الطراز العربي ويرجع تاريخها إلى القرن الثامن تقريبًا، قام البحارة أو اللصوص بأخذ غالبية الشحنة تاركين وراءهم أنيابًا عاجية وأخشاب من المحتمل أنها من الهند، والخزف الصيني".

إذن فهي السفن العربية وبحارتها العرب.

لقد أبدع العرب في علم الملاحة ورسم الخرائط البحرية وبروج السماء ومواقع النجوم وعلم المناخ ومواسم الرياح، وبناء السفن... ، وفوق ذلك، تميزوا بالذكاء الفطري في بناء العلاقات الإنسانية والتجارية، والأخلاق العالية التي جعلتهم محط قبول واحترام لدى أنواع كثيرة من الشعوب المختلفة عنهم في الدين واللغة والثقافة، وقد لعب التجار العرب المسلمون دوراً كبيراً كسفراء ثقافيين وفي نشر الدين الإسلامي. يقول الكاتب:" تعكس حكايات سندباد هذا الوضع، وفي رحلته الأخيرة يعمل التاجر العراقي سفيراً للخليفة في بغداد لدى حاكم بعيد ليكسب امتنان الخليفة".


لقد طوّر العرب صناعة النقل البحري والبري، كانت سفنهم تجوب المحيط الهندي وتنقل البضائع والناس بين أطرافه، وتصل إلى موانئهم في جنوب الجزيرة العربية والخليج العربي إلى البصرة في جنوب العراق، وكانت قوافلهم البرية تنقل من تلك الموانئ وإليها بضائع ومسافرين تتبادل بين مدن وحواضر الإسلام في بغداد ودمشق والقاهرة وحلب والموصل وبيروت وغيرها. لقد كانت صناعة عظيمة لها مراكز ومحطات على طريق القوافل تتم فيها تجارة وتبديل للجمال واستراحات للمسافرين وتزويد بالمؤن وكل مستلزمات السفر، وحماية للطرق وتمهيداً لها وتوفيراً للزاد والماء، ومازالت آثار للخانات ومرابض الإبل باقية في بعض تلك المدن. لقد كانت حركة اقتصادية تدر الكثير من الأموال وتوفر الكثير من المهن والدخل لكل ساكني تلك المحطات التي تمر بها طرق القوافل.

حوالي عام 1400 للميلاد، بدأ الصينيون في بناء سفن ضخمة أبحرت في تلك البحار ووصلت إلى السواحل العربية والأفريقية وأرعبت أهلها. وبعد أقل من قرن، بدأ الأوربيون التجوال في تلك البحار والشواطئ وهم مزودون بتقنيات عسكرية أفضل مما يملكه العرب، وقاموا بغزو وتدمير الأسطول التجاري العربي والمدن الساحلية العربية على شواطئ جنوب الجزيرة العربية والخليج العربي بشكل وحشي وغير أخلاقي، وانتهت امبراطورية التجارة البحرية العربية في المحيط الهندي، وبدأت مرحلة الضعف والفقر والانحطاط، ومن ثم الاستعمار الغربي والتبعية له.

يختم الكاتب:" تقاعد سندباد بشكل مريح وعاد إلى بغداد بعد رحلته السابعة، متعهداً بعدم وضع قدمه على متن سفينة مرة أخرى. ومع ذلك، لا يزال علماء الآثار في بداية عملهم لاستعادة تاريخ المحيط الهندي المفقود منذ زمن طويل".

بقي سؤال يطرح نفسه يتعلق بتفاصيل رحلة الشتاء والصيف التي امتن الله سبحانه على قريش بها، ماذا كان دور قريش وعرب الجزيرة العربية فيها؟ هل هي نقل البضائع والمنتجات بين اليمن والشام فقط، كما درسونا في مناهج التعليم المدرسي؟ أم أن الأمر أكبر من ذلك بكثير؟

ما هي العلاقات السياسية والثقافية والاقتصادية والعسكرية بين العرب وبين الدول والإمبراطوريات القائمة في ذلك الوقت؟ الإمبراطورية الرومانية وحلفائها الأحباش، والإمبراطورية الفارسية، والممالك في شرق إفريقيا وآسيا؟ وهل حملة أصحاب الفيل لهدم الكعبة المشرفة لها علاقة بتلك العلاقات؟ وهل فرح المسلمين بانتصار الروم وهزيمة الفرس له دلالة أخرى
؟
google-playkhamsatmostaqltradent