هل صنع العلماء أول روبوت من خلايا حية؟
لابد وأن "صوفيا"، والتي صممت شكليا لتشبه الممثلة البريطانية أودري هيبورنهي، هي أشهر روبوت في العالم العربي الآن، فقد حصلت على الجنسية السعودية قبل أعوام قليلة، ومن حين لآخر تظهر في الاحتفاليات التكنولوجية والسياسية العربية لتلتقط صورا مع الجميع وتظهر في برامج المساء لتبهر المواطنين بما يمكن أن تصل إليه بلادهم يومًا ما.
لكن على الرغم من أن صوفيا مصنوعة من المعدن والبلاستك، إلا أنه لا يمكن لنا أن نعرّفها كقطعة من المعدن أو البلاستك، بل نعرّفها كـ "روبوت"، أي آلة ميكانيكية قادرة على القيام بأعمال مبرمجة سلفا، في الواقع يمكن أن تستخدم أي شيء لصناعة روبوت طالما أنه وافق ذلك التعريف، يمكن أن تستخدم الصخور أو الأخشاب، كذلك يمكن أن تستخدم الحياة نفسها!
روبوتات حيّة
"نحن أمام روبوت حي فريد من نوعه، ليس روبوتًا تقليديًا ولا كائنا حيا، بل كائنا حيا قابلا للبرمجة"
عمل كريجمان مع الرفاق من جامعة تافتس الأمريكية على فكرة جديدة تمامًا من نوعها، وهي أنه -بدلا من المعدن والبلاستيك- يمكن لنا أن نستخدم الخلايا الحية لصناعة كيان حي يؤدي وظائف محددة سلفًا.
بذلك يصبح روبوتا حيا، فكما أن الكتاب مصنوع من الخشب بالأساس لكننا لا نسميه "شجرة"، الـ "زينوبوت" كذلك، مصنوع من خلايا حية لكن لا يمكن ببساطة أن نسميه حيوان. اصطلاح "زينوبوت" مكون من جزئين، الثاني كما ترى يشير إلى الروبوت، أما الأول "زينو"، فهو نسبة إلى القطيم الأفريقي أو "زينوباس لايفس" (Xenopus laevis)، وهو نوع من الضفادع.
حصل كريجمان ورفاقه على الخلايا الجذعية من أجنة هذا النوع من الضفادع، تلك التي تمايزت فيما بعد لتصبح خلايا جلدية وخلايا قلبية، الخلايا الجذعية هي ببساطة نوع نشط غير متخصص من الخلايا، يمكن لها أن تتمايز إلى خلايا متخصصة، كذلك لها قدرة عالية على الانقسام لتجدد نفسها باستمرار، في تجارب كريجمان ورفاقه نمت تلك الخلايا لتصبح بحجم حبة رمل، حوالي نصف ملليمتر فقط.
"تضرب خلايا القلب حوالي مرة واحدة في الثانية، ويتم تغذيتها بواسطة مخزون دهني محيط بها، لذلك يمكن لها أن تعيش أكثر من أسبوع" يقول أستاذ علم الحوسبة لمحرر "ميدان"
موضحًا أن الفكرة هي صناعة كائن بسيط، نابض عبر الخلايا القلبية، وقوي مستقل بذاته لأنه يحوي خلايا جلدية والتي -بحسب طبيعتها- تحمي ما تغلفه، لكن الأمر -بحسب دراستهم الصادرة قبل أيام في منشورات الأكاديمية الوطنية للعلوم PNAS- لا يقف عند هذا الحد.
خوارزمية الحياة! كما تلاحظ، فإن كريجمان ورفاقه من جامعة فيرمونت متخصصو حوسبة، وكان دورهم الرئيسي هو -ببساطة- محاكاة الطبيعة. بمعنى أوضح، استخدم هذا الفريق الحاسوب الفائق الخاص بجامعة فيرمونت "دييب جرين" لتصميم خوارزمية ذكية تستخدم معلومات بدائية أساسية عن طبيعة الخلايا القلبية النابضة والجلدية التي لا تنبض من أجل بناء عدد ضخم من التركيبات التشريحية الممكنة والتي يحوي كل منها حوالي 20 ألف خلية.
يشبه الأمر أن تمتلك فقط نوعين من قطع الليغو، وعددا كبيرا من كل منهما، وكل وظيفتك هي أن تركب تلك القطع معًا لصنع أشكال مختلفة، هذا هو ما تفعله تلك الخوارزمية، لكنها ذات هدف محدد وهو صنع أشكال أكثر قدرة على الحركة، ثم بعد أن تصنع عددا ضخما من تلك الأشكال تقوم بعمل محاكاة لكل تلك الاحتمالات الممكنة.
"حتى الآن هدفنا إلى تصميم كائنات حية محوسبة يمكن لها أن تمشي وتسبح وتدفع أو تحمل كائنًا آخرا وتعمل معًا في مجموعات"
وبناء على تلك الأهداف خرجت الخوارزميات بنتائج ترتّب الكائنات الخارجة من الأفضل إلى الأسوأ في قيامها بتلك المهام، في تلك النقطة تقوم الخوارزمية بعمل شيء يشبه كثيرًا ما تفعله الطبيعة بشكل يومي منذ أكثر من أربعة مليارات من الأعوام.
تحذف الخوارزمية النتائج الناجحة، وتبدلها بجيل جديد من النماذج لتلك الكائنات يحتوي فقط على المجموعة الناجحة منها ومجموعة أخرى تم إحداث طفرات عشوائية بها، ثم تدخل المجموعات الجديدة في سباق جديد، ومع نهاية السباق تحذف الخوارزمية مجموعة أخرى من الكائنات وتسبب طفرات للمجموعة الناجحة، ويستمر الأمر هكذا لحين الحصول على أفضل كائنات ممكنة، إنها ببساطة محاكاة لآلية "الانتقاء الطبيعي" المعروفة.
الخلايا القلبية (أحمر) والخلايا الجلدية (أخضر)، إلى اليسار تجد الخوارزمية الناجحة، وإلى اليمين تجد التصميم التشريحي بعد بنائه |
في تلك النقطة يأتي دور الجانب البيولوجي من فريق العمل، فريق جامعة تافتس، والذي عمل على استخراج الخلايا الجذعية من أجنة الضفادع الأفريقية، ثم ترمت لتنمو، بعد ذلك باستخدام آلات قطع ميكروسكوبية وأقطاب كهربائية صغيرة جدًا قطّعت تلك الأنسجة الصغيرة -بحجم حبة رمل- وأعيد بناءها بنفس شكل التصميم الناجح الذي خرج من الخوارزمية.
"هذه هي كائنات مبرمجة عن طريق تشريحها" يقول كريجمان في حديثه مع "ميدان" مضيفًا: "الشكل العام لجسمها ووضع الخلايا القلبية فيه، كذلك الترتيبات المختلفة للجلد والخلايا العضلية، تؤدي جميعها إلى أنواع مختلفة من الحركة والسلوك"
بذلك تكون تلك الكائنات حية، لأنها مكونة من خلايا حية تتغذى على مخزون دهني محيط بها، لكنها ليست حية كما تعرفها الطبيعة، بل تؤدي وظائف مبرمجة سلفًا بحسب الخوارزمية التي صنعتها!
حاملات الدواء والسلاح
حينما وضعت كائنات الـ "زينوبوت" في بيئة مائية للاختبار، شكلت خلايا الجلد بنية فعالة لحماية النسيج فأصبحت انقباضات الخلايا القلبية هي المحرك الذي يعمل على قيادة النسيج في حركة منتظمة باتجاه محدد، للأمام أو في دائرة، كذلك فإنها اتخذت أنماط ذاتية التنظيم بشكل تلقائي، بمعنى أنها عملت معًا بشكل كلّي، وهذا متوقع في ظل منظومة وظيفية كتلك، يشبه الأمر أن تنتظم جزيئات الهواء لعمل إعصار أو أن تنتظم ذرات الماء لعمل بلورات ثلج ذات أشكال بديعة.
كذلك، صممت بعض من تلك الكائنات الصغيرة جدًا بفتحات داخلية يمكن لها أن تحمل شيئًا بين جناباتها في أثناء حركتها، ونجحت بالفعل في آداء تلك المهمة. من جهة أخرى فإن تلك الروبوتات الحية يمكن لها -إذا تعرضت للقطع أو التحطيم بأية طريقة- أن تشفي نفسها مرة أخرى وتعود كما كانت، يفتح ذلك باباً واسعًا من الاستخدامات المستقبلية.
مجموعة أخرى من التصميمات الناجحة في تجربة كريجمان ورفاقه، بالأعلى تجد التصميم الموجود بالخوارزمية، وبالأسفل تجد التصميم التشريحي الحي (مواقع التواصل) |
يقول كريجمان في حديثه مع محرر "ميدان": "أول شيء، فإن هذه الكائنات تعيش لحوالي سبعة أيام ثم تتوقف عن العمل، كما أنها لا تتكاثر"، وبالتالي فإن هاتان الصفتان هما ميزة أمنية هامة، فكلمة "تصميم بيولوجي" تثير الفزع في قلوب الكثيرين والذين سيقولون إن هؤلاء الباحثين ربما يصممون فيروس قاتل جديد دون أن يدرون، خاصة وأن أفلام هوليوود لطالما ركّزت على تلك الفكرة.
"من جهة أخرى، وبالنظر إلى أن هذه الروبوتات هي خلايا حية بنسبة 100 ٪، فهي متوافقة مع الأجسام الحية" يقول كريجمان في حديثه مع "ميدان" مضيفًا أن ذلك يسمح بأن يتم نشرها يوما ما داخل أجسامنا لتوصيل الأدوية إلى الأماكن المستهدفة. كما أنها قابلة للتحلل الحيوي لذلك يمكن استخدام أسراب ضخمة من الزينوبوت في المستقبل لمعالجة البيئة دون إضافة المزيد من التلوث.
كما ترى، فإن هناك فيض هائل من الخدمات التي يمكن لكائنات كتلك أن تقدمه للبشرية، لكن الأمر بالطبع لا يقف عند هذا الحد، فبجانب كل تلك المزايا، يفتح الكشف الجديد الباب للعديد من المخاطر، وفي حديثه مع "ميدان" يقول كريجمان إنه من الممكن، لكن مع احتمالات ضعيفة، أن تستخدم تلك التقنيات في تطوير كائنات ضارة أو أسلحة أو أية أشياء شبيهة، لكن طبيعة تلك الروبوتات الحية المقيدة تخفف من ذلك الأثر ممكن.
ما الحياة؟
بالإضافة إلى ذلك، فإن نجاح هذا الفريق في إنتاجها يدخل بنا إلى ما هو أعمق من ذلك، حيث طالما نظرنا إلى عمليات التعديل الحيوي من ناحية التحرير الجيني، أما هنا فنحن نتكلم عن تحرير تشريحي، فتلك هي خلايا ضفادع مع حمض نووي خاص بالضفادع لم يعدله أحد، رغم ذلك قام العلماء بتعديلها وظيفيًا والحصول على شيء غير موجود بالطبيعة.
يقول كريجمان في حديثه مع "ميدان": "بمعنى أوضح، ما هي الوظائف الأخرى التي يمكن للخلايا الحية أن تؤديها بجانب وظائفها التي يحددها الجينوم؟ كيف تتعاون معًا وتقرر طبيعة مستقبلها حينما تتحرر من السياق الذي كانت مقيدة به؟"، يفتح ما سبق الباب لأسئلة أخرى أكثر إثارة للانتباه، فهذه الكيانات هي -بشكل أو بآخر- كائنات حية، لكن ما هو الكائن الحي؟ هذه الكائنات لا تتكاثر ولا تؤدي الكثير من الوظائف التي نضمنها عادة في وضع تعريفي للكائن الحي، ما هو أو ما هي إذن؟!
روبوت حي يتحرك للأمام
من جهة أخرى، فإن هذا البحث هو إشارة ناجحة جدًا إلى الكيفية التي يمكن أن تتداخل بها نطاقات مختلفة معًا، من كان ليظن أن الخوارزميات الرياضية قد تتدخل يومًا ما لحل مشكلات خاصة بعلم التشريح؟ لكن كريجمان في تلك النقطة يفتح الباب لمستقبل ثري ونشط لهذا التعاون عندما يقول لمحرر "ميدان": "السؤال الكبير في علم الأحياء هو فهم الخوارزميات التي تحدد الشكل والوظيفة للأنسجة الحية"، وبذلك ستلعب الرياضيات دورًا مستقبليًا باهرًا ربما في تطوير فهمنا لعلوم التشريح والوظائف الحيوية.
في كل الأحوال، فإن الزوينوبوتات هي خطوة أولى على سلم طريق طويل متسع لمستقبل يحتمل أي شيء تقريبًا، بجانب ذلك فإنه حالة أخرى من الدوران حول السؤال نفسه الذي طالما أثار انتباهنا: من نحن؟ كيف يتمكن البشر بطرق فريدة غير مباشرة من التوصل لتلك النتائج المذهلة؟ ما الذي يميزنا في هذا الكون؟ ما الاختلاف بيننا وبين هذا الكائن البسيط جدًا لدرجة أنه يعيدنا إلى نقطة الصفر في تعريفنا للحياة؟!
- المصادر: دراسة-كريجمان ورفاقه: "A scalable pipeline for designing reconfigurable organisms"