random
آخر التقارير

كسر الاحتكار الغربي.. الصين تتجهز للسيطرة على دفة العلم





بعد أن اجتاز المسبار الأميركي "فويجر 1" حدود كوكب زحل، في الثمانينيات من القرن الفائت، اقترح كارل ساجان، العالم الأميركي الشهير، أن تقوم المركبة بمهمة جديدة خطيرة، وهي أن يُعدَّل وضعها فتنظر إلى الخلف، لتوجّه إحدى العدسات ناحية زحل من جديد، فتلتقط صورة أخرى للكوكب وفي خلفيته تقع الأرض كنقطة زرقاء باهتة1. بالطبع لاقى ذلك الاقتراح الكثير من الاعتراض. "فويجر" هي مهمة علمية، وهذه الصورة لا أهمية علمية لها على الإطلاق، فلِمَ نُكلّف أنفسنا مناورة سوف تقلّص كمية الوقود الخاصة بالمسبار؟



لكن ساجان ربما كان ذكيا كفاية لإدراك أن الأمر لا يتعلّق فقط بالعلم. صورة كتلك، تظهر فيها الأرض، هناك على مسافة أكثر من مليار كيلومتر، كأنها لا شيء مقارنة بهذا المجهول الكوني الواسع، كانت كفيلة بإعطاء رسالة عالمية غاية في القوة استمر أثرها طوال ثلاثين عاما مضت، رسالة تقول ببساطة: "نحن الأميركان، صعدنا إلى القمر، ووصلت مركباتنا إلى مناطق لم يتصور أي عقل بشري أن نبلغها، ها هي الأرض من منظورنا".



الوجه المظلم للقمر بداية من اللحظة التي وضع نيل أرمسترونج فيها أقدامه على سطح القمر قائلا إنها خطوة واحدة لإنسان لكنها خطوة عظيمة للبشرية كلّها، أعلنت الولايات المتحدة الأميركية سيطرتها الكاملة على نطاق علوم الفضاء، والعلم كلّه. يمكن أن نرى جذور ذلك في الخمسينيات من القرن الفائت حينما قال2 الرئيس الأميركي هاري ترومان في نص توقيع فاتورة إنشاء المؤسسة الوطنية للعلوم: "لقد أدركنا أن قدرتنا على البقاء والنمو ترتبط إلى حد كبير باعتمادنا على تقدمنا العلمي"، مضيفا أنه: "علاوة على ذلك، لا يكفي ببساطة مواكبة بقية العالم في المسائل العلمية، يجب أن نحافظ على قيادتنا للعالم في هذا المجال".


 




الآن دعنا نقارن هذا التصريح مع آخر صدر عن الرئيس الصيني، شي جين بينغ، خلال3 مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني في أكتوبر/تشرين الأول 2017، والذي أوضح فيه أن خطة الصين القادمة، والتي تنقسم إلى مرحلتين أساسيتين بداية من 2022 إلى 2050، تتضمن دفع الصين بقوة لتصبح "قوة عظمى في مجال العلوم والتكنولوجيا، خاصة في مجالات علوم الفضاء والتكنولوجيا الرقمية"، موضحا أن الصين تتبع إستراتيجية للتنمية مدفوعة بالابتكار البحثي وتسعى إلى تحصيل أكبر استفادة ممكنة من الإنترنت والبيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي.



في الحقيقة كانت إحدى علامات نجاح رؤية الإدارة الصينية واضحة للغاية في إعلان أخير، قبل أيام قليلة، بأن المسبار "تشانغ إي 4" قد هبط4 على الجانب الآخر للقمر، ذلك الذي لا يقابلنا على الأرض، في سابقة هي الأولى من نوعها في التاريخ، فقد هبطت مركبات كثيرة من قبل على وجه القمر المقابل لنا، أما بالنسبة للوجه الآخر الذي لا نراه فتصل بياناته إلينا عبر مركبات تدور حول القمر، لكن لم يحدث من قبل أن هبطت إحدى المركبات على هذا الجانب، أعلن التلفزيون الصيني الخبر مع عرض مجموعة من الصور التي تظهر فيها أرض القمر من الجانب الآخر، وسط فرحة عارمة.



تهدف المركبة الصينية الجديدة التي تتجول الآن وحدها على جانب القمر البعيد إلى عمل مسح جيولوجي دقيق لتلك المنطقة، لعدة أسباب، أولها هو إعطاء أسباب واضحة للاختلاف بين وجهي القمر، فنحن نعرف أن وجه القمر البعيد يحتوي على نسبة قليلة جدا من "البحار القمرية" في حين يحتوي الوجه القريب على كم كبير منها، من جهة أخرى تهدُف المركبة إلى عمل تجارب بيولوجية لدراسة كيفية نمو وتطور ديدان القز، والبطاطا، وبعض النباتات الأخرى على هذا الجانب من القمر، مع جمع ملاحظات مهمة تتعلق بعلم الفلك الراديوي والاستفادة التي يمكن الحصول عليها من هدوء هذا الوجه القمري.





من سيصل أولا؟ لكن أحد أهداف الرحلة الرئيسية هي، لا شك، أن تصبح الصين أولى دول العالم في نشاطات من هذا القبيل، أن تمتلك -عبر تكنولوجيا خاصة بها- التوصل إلى معلومات حصرية يعرف العالم كله أنها موجودة فقط لدى الصين، في الحقيقة ليست تلك هي المرة الأولى التي يحدث فيها ذلك، قبل عدة سنوات فقط بدأ العمل5 في التلسكوب الصيني الراديوي الأكبر في التاريخ بقُطر 500 متر (the Five-hundred-meter Aperture Spherical Telescope)، أو فاست (FAST) اختصارا، يتكون التلسكوب من نحو 4500 لوح معدني مثلث الشكل، ويمكن التحكم في توجه كل من تلك الألواح من أجل التركيز على مناطق محددة في سماء الليل لاستقبال رسائل راديوية منها.



كلما ازداد قُطر التلسكوب الراديوي تمكّنت بسهولة من استراق السمع للنجوم ونبضاتها بشكل أكثر إرهافا، كان التلسكوب أريسيبو (ARECIBO) الأميركي هو الأضخم قبل ذلك، لكن يأتي التلسكوب الصيني بضعف الحجم ليفتح بابا جديدا للسماء، ويأمل الصينيون أن يتمكّن "فاست" من تحقيق هدف البشرية الأكبر بالتقاط رسائل من حضارات ذكية تبعد عنا مليارات التريليونات من الكيلومترات في الفضاء الواسع.



يعني ذلك رسالة عالمية جديدة. على سبيل المثال، في كل أفلام الكائنات الفضائية التي تلقى رواجا عالميا، كان الأميركان هم أول من يستقبل إشارات الحضارات البعيدة، لكننا الآن نعرف أن الصين تمتلك تلسكوبا بإمكانه أن يفعل ذلك قبل الولايات المتحدة، يؤثر ذلك بقوة على رسالة الهيمنة الأميركية العالمية، يبدلها بأخرى جديدة تقول إن القوى العلمية الناعمة التي تستخدمها الولايات المتحدة الأميركية، والتي ساعدت بصورة غاية في الحساسية أثناء الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفيتي، مهددة بمنافس جديد، لكن، هل الصين قادرة حقا على المُضي قدما في تلك الخطة لتثبيت أقدامها كعملاق العلم الجديد؟



ثورة علمية في العام 2017 أصدرت الدورية الشهيرة "نيتشر" تقريرا6 يرصد عدد المساهمات التي تقوم بها دول العالم في أرقى 80 مجلة علمية، جاءت نتائج التقرير لتوضح أن الولايات المتحدة ما زالت تقود العالم في مجال النشر العلمي، وبفارق جوهري عن أقرب المنافسين، الصين وإنجلترا وألمانيا، لكن حينما نتأمل تطور نسب النشر السنوية سنكتشف أن المشكلة التي تواجه الولايات المتحدة الأميركية ليست فيما يحدث الآن، بل فيما سيحدث بحلول العام 2025.



وذلك لأن نسب7 نشر الباحثين الأميركان في الدوريات العلمية رفيعة المستوى تتناقص بصورة مستمرة وثابتة، في المقابل من ذلك تتزايد نسب نشر الباحثين الصينيين في هذه الدوريات بصورة واضحة، إذا استمرت هذه المعدلات بالوتيرة نفسها فإننا نتحدث عن مفردة "Singularity" علمية، وسياسية واقتصادية بالتبعية، سوف تحدث في العام 2025، حيث ستكون تلك هي النقطة التي تسبق فيها الصين الولايات المتحدة الأميركية، لتصبح قائدة العالم في مجال النشر العلمي.



تتكرر هذه النتائج في دراسات من مجالات عدة10،8،9،11،، والإدارات الصينية المتتالية تعرف ذلك بالفعل، وتتجهز لتلك اللحظة، يمكن أن نفهم ذلك عبر إلقاء نظرة على الدعم الذي يتلقاه تعليم العلوم والتكنولوجيا (برامج ستيم (STEM)) في الصين. بداية من العام 2004، كانت الصين هي الدولة صاحبة أكبر12 عدد من خرّيجي كلّيات العلوم والتكنولوجيا ومتعلّقاتها في دفعة شاهقة لدرجة جعلت عدد الخرّيجين في العام 2014 هو نحو مليونٍ وسبعمئة ألف، مقابل نحو 800 ألف خرّيج جامعي في تلك المجالات بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية.



تدفع الصين بجيش كامل من الباحثين في مجالات العلوم والتكنولوجيا إلى سوق العمل، وعلى الرغم من أن جودة الجامعات الصينية لا تُقارن بالأميركية، 2 فقط في قائمة الأفضل على مستوى العالم مقابل 15 أميركية، فإن الإدارة الصينية تتحرك بخطى واثقة ناحية دعمِ كامل الكيان العلمي بنسب غير مسبوقة، على سبيل المثال، في العام 2017 تم تخصيص13 نحو 300 بليون دولار للبحث العلمي والتنمية، علما بأن الصين ترفع نسب الإنفاق على هذا المجال بنسبة 14% سنويا، بمعنى أنها تضاعف إنفاقها كل سبع سنوات تقريبا، وتركز اهتمامها بالأساس على أبحاث الذكاء الاصطناعي، البيانات الضخمة، علوم الفضاء، خاصة الرحلات المأهولة، الطاقة المتجددة.



هل ستصبح الصين عملاق العلم القادم؟ في كل المخططات البيانية التي ستتأملها، والتي ترتبط بانطلاقة الصين خلال السنوات العشرين السابقة في مجالات العلوم والتكنولوجيا، سوف يكون أكثر ما يلفت انتباهك هو أن الأمر يشبه الثورة، قفزات شاهقة متسارعة عاما بعد عام تضع الكثير من الدول في خلفية الصين، وتقرّبها بصورة متسارعة للغاية، بمعايير التقدم العلمي، من الولايات المتحدة الأميركية، في تلك الأثناء انتقل حجم الإنفاق الصيني على البحث العلمي من 0.7% من الناتج المحلي الإجمالي إلى 2.1% حاليا، بينما في الولايات المتحدة تراجعت النسبة لتصبح 2.7%.



لهذا كانت ورقة بحثية صادرة14 قبل عدة أعوام من منشورات الأكاديمية الوطنية للعلوم "PNAS"، الدورية الشهيرة، قد أشارت إلى مجموعة من الأسباب التي قد تؤدي إلى وصول الصين لمرحلة "المفردة"، التي ستكون عندها أولى دول العالم في مجال العلوم، أول تلك الأسباب هو لا شك عدد الصينيين، فعلى الرغم من تراجع جودة التعليم في الصين، وأعداد باحثي الدكتوراه، فإن البرامج التي تعمل على تحسين تلك النطاقات ستعطي نتائج متسارعة بسبب الأعداد المهولة التي تنضم لها. بمعنى أوضح: عدد السكّان الكبير يعني قدرة هائلة على تنمية العمالة في المهن العلمية والهندسية، إنها قاعدة تعمل دائما في صف الدول النامية والتي تتخذ منحنيات اقتصادية متصاعدة، الهند في أثناء الثورة الخضراء هي خير مثال.



من جهة أخرى -السبب رقم 2- فإن الصين تدفع بملايين الطلّاب سنويا للعمل في هذا المجال، ومع تصاعد الإنفاق على البحث العلمي، السبب الثالث، يدخل سبب رابع غاية في الأهمية وهو دعوة الصين علماءها في الخارج إلى العودة من أجل استكمال أبحاثهم هناك، عبر برنامج الألف موهبة15 الجديد المستمر لعشر سنوات، والذي يضعهم في قمة المجتمع الصيني ويغريهم برواتب ومكافآت كبيرة، وبالفعل نجحت تلك الخطة شيئا فشيئا، حيث يغادر سنويا عدد لا بأس به من الباحثين الصينيين من كل مكان في العالم، في المجالات البحثية عالية المستوى، خاصة من الولايات المتحدة الأميركية، إلى بلادهم.



في الحقيقة فإن أحد الاختلافات بين طبيعة الصين واليابان هي بالأساس ما يعطي الصين دفعة كبيرة من تلك الناحية. بمعنى أوضح، تدعم الثقافة الصينية تبنّيَ الأفكار الجديدة، ما يجعل من السهل أن يندفع الباحث الصيني لمجالات متنوعة وإلى بلاد أخرى لكي يطارد أحلامه البحثية، يتسبب ذلك في وجود نسب كبيرة من الباحثين الصينيين في كل أنحاء العالم، وهو ما يعني بدوره فرصة أفضل للإدارة الصينية في أثناء تطبيقها لخططها المستقبلية، إلى جانب الأسباب السابقة.



لكن المشكلة، كما يبدو إذن، ليست فقط في تلك القفزات الواسعة التي تتخذها الصين بشكل ثابت ودقيق تجاه وضع ذاتها في مركز البحث العلمي العالمي، بل كذلك في التراجع الواضح والثابت في معدلات نمو الولايات المتحدة داخل النطاقات نفسها، ما يعني فرصة أفضل للصينيين لتحقيق أحلامهم بالسيادة. رؤية الإدارة الصينية تجاه البحث العلمي واضحة ومُعلنة وتمشي بخطى ثابتة، بينما -في ظل وجود دونالد ترامب- هناك تخبّط في الرؤى الأميركية.



هل تتجه الصين لتصبح قائدة البحث العلمي في عالم ما بعد العام 2020؟ هذا هو ما تقوله البيانات. بالطبع تواجه الصين الكثير من المشكلات، على سبيل المثال16 لا يمكن للبحث العلمي أن ينمو بصورة متفتحة في أجواء مستبدة، كذلك فإن الصين ما زالت تعاني من تصدّرها لمركز متقدم في قائمة الأبحاث المفبركة، لكن الخطوات التي تتخذها الصين في العقدين السابقين تؤكد أن تخطّي تلك العوائق ليس بتحدٍّ كبير.



لذلك، فإن الإنزال الأخير على سطح القمر للمركبة "تشانغ إي 4"، ليس مجرد مرحلة جديدة في خطة الإدارة الصينية لتطوير برنامجها الفضائي، والذي17 بدأ منذ السبعينيات مرورا بعلامات فارقة كإنشاء محطة فضائية صينية وانطلاق روّاد الفضاء الصينيين عبر غلاف الأرض، بل هو إعلان ينبئ، ربما، بانطلاق سباق فضاء جديد يطرح أسئلة جديدة: هل ستتمكن الصين من الحفاظ على تفوقها المتصاعد؟ هل ستستمر الولايات المتحدة في التراجع بمجال البحث العلمي؟ هل سيأتي اليوم الذي سيهبط فيه رائد فضاء صيني إلى كوكب قريب، للمرة الأولى في تاريخنا، قائلا إنها خطوة صغيرة لإنسان، لكنها خطوة عظيمة للبشرية جمعاء؟


المصادر

google-playkhamsatmostaqltradent