مقدمة :
عندما نتساءل ماهي الفلسفة؟ فاننا نجد انفسنا امام طرق متعددة للاجابة تقودنا الى القول ان الفلسفة هي: الحاد او كلام لا طائل منه او معرفة ليست لها منفعة مادية، انها معرفة مجردة بعيدة عن الواقع، اضف الى ذلك انها مجرد تلاعب بالكلمات. وفي مجتمعاتنا العربية كثيرا ماتكون كلمة <فلسفة> موضوعا للفهم الساذج حيث تنعت بالفاظ بعيد عنها (الفلسفة مضيعة للوقت، الفلسفة لاتفيد من الناحية العلمية، الفلسفة ضد الشريعة)، انها في بعض الاحيان مدعاة للسخرية والاستهزاء، واحيانا اخرى مدعاة للتعجب، فاذا اردنا ان نسخر من شخص قلنا انه <<يتفلسف>> اي يقول كلاما مجردا يستعصي فهمه. لكن اذا كان الحس المشترك <الفكر العامي> عموما يعطي للفلسفة معنى سلبيا ويحكم عليها حكما قيميا، فما هي الفلسفة؟ وما هو معناها عند الفلاسفة؟.
قبل الاجابة عن هذه الاسئلة كان لزاما علينا الاجابة عن جملة من التساؤلات من قبيل: متى ظهر الفكر الفلسفي؟ وما هي الشروط والظروف التي ساعدت على نشاة هذا النمط الجديد من التفكير؟
نشاة الفلسفة:
كان اهم ما يميز الفكر الفلسفي اليوناني هو التماس المعرفة لذاتها، وكانت كلمة الفلسفة عنذ اليونانيين الاوائل تدل على معنى عام كل العموم حيث عرّفت بانها <<كل معرفة لا تهدف الى اي غاية عملية او فائدة نفعية>>.
لكن الى حد الان لم نقم بالاجابة عن الاسئلة المطروحة سلفا، لذا يمكننا استدراك الامر بالقول: نشات الفلسفة كتفكير نظري منظم اول مرة في التاريخ في المجتمع اليوناني القديم حوالي القرن 5 ق.م، ولكن هل يمكن الحديث عن بداية الفلسفة دون الرجوع الى الارهاصات والبوادر الاولى او الجذور التي ساعدت على نمو هذا النمط الجديد من التفكير في احضان البلاد اليونانية؟
في البداية كانت الاسطورة هي الفكر السائد، وكانت تقوم على التفسير الغيبي والوهمي للظواهر، بل تحاول ان تفسر الواقعي بالاواقعي معتمدة في ذلك على الكلام الشفوي المبني على النصية الحكائية للسرد الاسطوري، وان العلل الاولى للوجود تتحكم فيها قوى الهية خارقة، الشيئ الذي فرض حوالي القرن 6 و7 ق.م على الحكماء الطبيعيين الاوائل (طاليس، انكسمنس، انكسمندر، هيراقليطس....) الدخول في صراع مع الفكر الاسطوري.
ان الطلاق بين الاسطورة والفلسفة لم يكن منذ الوهلة الاولى بشكل نهائي، بل ان الفكر الفلسفي استبدل مفهوم المقدس <<الارواح الالهية>> الى مفهوم <<المبدأ أو الواحد>> (الماء هو اصل الكون عند طاليس مثلا) الذي ينتمي الى الطبييعة، وابدع لنفسه (اي الفكر الفلسفي) اسلوبا جديدا يعتمد على الاستدلال البرهاني والتحليل المنظم الموجز في اطار صياغة كتابية عكس التقليد الشفوي فيالفكر الاسطوري، وعلى حدِّ قول المؤرخ الفرنسي "جون بيير فرنان": <<اصبح اللوغوس (LOGOS اي التفكير العقلي) ممقابلا للميثوس (MYTHOS اي التفكير الخرافي الاسطوري) وصارا منفصلين ومتواجهين>>. ويبرز خصوصيتها (اي الفلسفة) ويميزها عن الاسطورة، يقول "وايزمان": <<ويتفق ظهور الفلسفة القديمة مع فترة تشكل المجتمع الطبقي عندما كانت الاساطير لا تزال هي الشكل السائد للوعي الاجتماعي. والواقع أن الفلاسفة الاوائل (الحكماء الطبيعيين) كانوا فلاسفة بمجرد انهم دخلوا في صراع مع النظرة الاسطورية التقليدية للعالم>>.
ان الفلسفة لم تتتأاسس اذن باعتبارها خطابا جديدا متميزا عند اليونان الا من خلال صراعها مع الاسطورة، وبهذا اتجهت الطبيعيين الاوائل نحو العالم الخارجي ودراسة نشأة الكون وتفسير الطبيعة تفسيرا نظريا يرجع بها الى مبادئها الاولى (مثل الماء، الهواء، النار، التراب....)، ويمكن ان نلخص ذلك باالقول ان فلسفتهم كانت فلسفة كونية ممحضة. وبعدهم جاء فريق آخر من (الفلاسفة) أطلق عليهم اسم السوفسطائيين ابان القرن 4 ق.م وعلى رأسهم "جورجياس وبروتاغوراس" برعوا في الجدل والخطابة وفن الاقناع المحاجة بالحجج والبراهين، فاستغلوا عملهم في الكسب المادي وجعلوا من الفلسفة ضربا من التلاعب اللفظي الذي يجعل صاحبه، قادرا على تأييد القول الواحد ونقيضه على حدد سواء، ومع ذلك فقد كان لللسوفسطائيينن فضل كبير في تمهيد الطريق لسقراط (468-399 ق.م) الذي بدأت معه الفلسفة الحقيقية، حيث غيّر مجرى الدراسات الفلسفية من دراسة للطبيعة الى دراسة للانسان، ومن بحث في الفلك الى بحث فيي السياسة والاخلاق، لذلك قيل عنه: إنه أنزل الفلسفة من السماء إلى الارض، وقد تصدى في نفس الوقت لمغالطات للسوفسطائيين وفضح تناقضاتهم ساعيا من وراء ذلك إلى ان يرجع للفلسفة معناها الاصلي كمحبة للحكمة، ويبين دورها الحقيقي كمحاولة إنسانية جادة هدفها المعرفة وغايتها الحقيقة، وفي هذا الصدد أبدع مجموعة من الاقوال مثل <<اعرف نفسك بنفسك>> و <<كل ما اعرفه هو اني لا اعرف شيئا>>.
بعد ذلك جاء "أفللاطون" الذي اقتفى نهج معلمه سقراط وجعل من معرفة النفس الانسانية نقطة البداية في كل بحث فلسفي، ولكنه لم يلبث ان أرجع للفلسفة طابعها بنظريته المسماة <<عالم المثل>> فجعلها تستتوعب موضوعات الطبيعة والاخلاق وما بعد الطبيعة، وكان مطلبه من ذلك هو الحصول على معاارف يقينية وحقائق ثابتة موجودة في نظره في عالم المثل والتي يجب الوصول إليها عن طريق النظر العقلي متجاوزا العالم المحسوس لان أشياءه لا يمكن ان تمنحه اكثر من معارف ظنية.
فيما بعد تنافس مجموعة من الفلاسفة بدءا من ارسطو الى غاية عصرنا الحالي وتعددت نظرياتهم واتجاهاتهم وانساقهم الفلسفية.
الى جانب ما تم ذكره مسبقا قد ساعدت مجموعة من العوامل التاريخية والاجتماعية والجغرافية واالفكرية على ولادة الفلسفة داخل بلاد اليونان ويمكن ان نذكر من بينها ما يلي:
-عوامل سياسية:
+اصلاحات على المستوى السياسي قام بها كليستن حوالي 507 ق.م
+ظهور النظام الديموقراطي كنظام سياسي واجتماعي ضمن دمقرطة الحياة السياسية وساعد على انتشار حرية التعبير والرأي.
+التخلص من الانظمة الاستبدادية ذات الحكم المطلق.
-عوامل اقتصادية:
+نشاط واتساع المبادلات التجارية باعتبار اليونان ملتقى القوافل التجارية.
+بداية التعامل بالعملة النقدية وانتهاء عصر المقايضة.
-عوامل اجتماعية:
+ظهور المدينة الدولة ضد النظام القبلي والعشائر القديمة.
+انتشار المدنية المتحضرة.
+انقسام المجتمع الى طبقات ترتب عنها انقسام العمل الى واحد يدوي وآخر فكري.
+دور الاغورا Agora او الساحة العمومية في تسيخ مبادئ الحوار والنقاش المععقلن.
-عوامل ثقافيية:
+اننتشار الكتابة الابجدية في مققابل السرد الحكائي.
+انفتاح االمجال لحضور المسارح والمساهمة بابداعات فنية او ادبية.
+ظهور خطاب عقلي منظم ضدا عن فوض الاسطورة والالهة المتعددة.