لطالما كان معنى الحياة والهدف من الوجود سؤالًا أرق ملايين البشر على مر العصور، بالنسبة إلى علماء اللاهوت، كانت الإجابة دائمًا هي: «الإله»، كونه خالق الكون، والسبب في وجود كل شيء من العدم؛ إلا أن العلم والفلسفة كانت لهما طرق أخرى في الإجابة عن هذا السؤال؛ ففي الوقت الذي كان فيه العلم معنيًّا بتعريف المعنى المادي للوظائف الحيوية وتحليل الجسد فيزيائيًّا، كان الفلاسفة يسعون لملء المعنى الروحاني للحياة، وتقديم أطروحات عن معنى الحياة والهدف من الوجود، وقد أجابت كل ثقافة وفلسفة عن هذا السؤال بطريقةٍ مختلفة.
- (أنظر square)
بالنسبة إلى الفلسفة اليونانية كان أفلاطون يرى أن معنى الحياة يكمن في الوصول إلى أقصى شكل يمكن الوصول إليه من أشكال المعرفة، وهو ما أطلق عليه «المعنى الكلي».
كان العقل عند أفلاطون يستخدم في تعقله ثلاثة محاور لإدراك المعاني الكلية:
- الأول هو التذكر
- والثاني هو الجدل
- والثالث هو قوة الرغبة أو الحب.
يشير أفلاطون من خلال المحور الأول إلى أن المعرفة سابقة لوجود النفس البشرية على سطح الأرض، وأن المعاني الكلية موجودة فينا قبل الزمان الحالي، وما علينا سوى محاولة استرجاعها عن طريق تذكر ما تعلمته النفس في الماضي، مما يؤكد على فكرة أن النفس قد تعلمت كل شيء قبل حلولها في الجسد، وما عليها سوى التطهر مما علق بالنفس من آثارٍ جسدية، للوصول إلى حالة الروح الخالصة المتجردة، وحينها لن يقدر شيء على أن يعيق تذكرها.
كان التذكر محجوبًا عن تلك النفوس التي سقطت على هذه الأرض، فأحييت بالتعاسة أو انقادت بالظلم بسبب صلات سيئة أنستها الرؤى المقدسة التي حظت بها في الزمن الغابر. *أفلاطون
لم يكن هذا التفسير الأفلاطوني لمعنى الحياة هو الوحيد؛ إذ أثرى الفلاسفة العالم الإنساني بتفسيراتٍ كثيرة، بعضها كان يحمل نظرة متشائمة عن الحياة، بل شكك في وجود أي هدفٍ للوجود على الإطلاق، وفيما يلي عرض لأهم تفسيرات الفلاسفة للوجود.
النظرة التشاؤمية للحياة عند شوبنهاور
إنها تسكننا، لا تسكن العالم السفلي أو السماء المرصعة بالنجوم؛ فالروح التي تحيا داخلنا تصنع كل هذا. *شوبنهاور
كان أرتور شوبنهاور فيلسوف ألماني، اشتهر في القرن الثامن عشر والتاسع عشر بنظرته التشاؤمية عن الحياة؛ إذ رأى فيها شرًّا مطلقًا، وفي العدم أصل الأشياء، وفي كتابه الأشهر على الإطلاق «العالم إرادة وتمثلًا»، رأى شوبنهاور معنى الحياة وجوهرها يكمن في الإرادة؛ ولكنه نوع خاص من الإرادة الإنسانية يختلف عما ندركه من إرادة واعية تسترشد بالعقل.
فالإرادة عند شوبنهاور هي اندفاع أعمى نحو الحياة، وتكمن في أن نريد (أن نرغب)، وبالتالي يمكن ترجمتها على أنها الاندفاعات والميول التي تمتد من الحياة الواعية، إلى تلك غير الواعية، ويرى الفيلسوف أنها تتجلى في الطبيعة أيضًا بكل معطياتها بدءًا من النبات، وعلاقة الشمس بالأرض، وصولًا إلى الإنسان الذي يدمج تلك الإرادة بالمعرفة والوعي، لكن يعمل عقل السواد الأعظم من الناس خادمًا لتلك الإرادة (الرغبات)، مُستخدمًا وعيه ومعرفته ليتبعها.
«نحن لا نريد الأشياء، لأننا وجدنا أسبابًا لها؛ بل نخلق أسبابنا لأننا نريد أشياءً معينة»،
كانت تلك فلسفة شوبنهاور باختصار، وكانت الحياة بالنسبة له كفاحًا أبديًّا وصراعًا لا يهدأ إلا بالموت، إلا أن الموت لا ينهي معاناة الإنسان وشقائه، بل ينهي فحسب الإرادة كما تتجلى في كل فرد على حدة، إلا أنها تواصل وجودها في النوع البشري، ولهذا تظل الإرادة هي أصل الشقاء والمعاناة في العالم.
بالنسبةِ إلى شوبنهاور كان العالم أيضًا تمثلًا؛ إذ يتمثل لكل شخص من خلال وعيه المجرد التأملي، وبالتالي فالإنسان لا يعرف شمسًا ولا أرضًا، فقط يعرف عينًا ترى الشمس ويدًا تحس الأرض.
«العالم تمثلي بالنسبة لهذا الذي يتمثله، وهو الشخص ذاته»
نيتشه.. أن تكون تلميذًا لشوبنهاور
عثر الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه على كتاب شوبنهاور «العالم إرادة وتمثلًا» عن طريق المصادفة، في دار لبيع الكتب القديمة في مدينة لايبزج الألمانية، وعندما انتهى من قراءة الكتاب في أكتوبر (تشرين الأول) 1865، شعر بدوارٍ عقلي لازمه تسع سنوات، وجعل صورة العالم تتبدل أمام ناظريه؛ فكتب في أوراقه الخاصة هذه الكلمات:
«هنا يصرخ كل سطر عن رفض ونكران زاهد للذات، وترويض للنفس، هنا رأيت مرآة لمحت فيها العالم والحياة وروحي، في تمجيد رهيب، هنا رأيت المرض والعلاج، المنفى والملاذ، الجحيم والجنة».
كانت كتابات شوبنهاور حينها مصدرًا ليس فقط للتعلم، بالنسبة إلى نيتشه، ولكن للراحة النفسية في عالمٍ قلق، فاعتنق مذهبه في الحياة ورؤية العالم التشاؤمية، وذلك حتى دب فيه المرض؛ إذ أصيب بالدوسطاريا والدفتريا، وصادف فيه المرض استعدادًا وراثيًّا أوهنه سنين عديدة، وحينها ثار على شوبنهاور واعتنق مذهب الحياة. كان نيتشه يتعامل مع الألم بوصفه رياضةً روحية تنكر على المريض أن يكون متشائمًا، وإذا كان شوبنهاور يؤمن بالإرادة بوصفها معنى للحياة والعالم؛ فإن نيتشه قد وضع إرادة القوة في المقام الأول؛ فبحسب نيتشه، تتوق الحياة دائمًا للازدهار والانتشار ولو بالطغيان على الغير وبسط سلطانها عليه، والحياة لا تزدهر إلا بإخضاع ما حولها.
الحياة عند نيتشه لم تكن أبدًا عادلة، فليس هناك عناية إلهية مشرفة على شئون البشر، وليس هناك قوانين تُحسن إلى من اتبعها وتعاقب من يهمَّ بالخروج عليها، فالحق للقوة؛ لأن القوة يجب أن تسود وتعلو. إن الإنسان الراهن حبل مشدود بين الحيوان الأعجم والإنسان الأعلى، الذي هو بالنسبة إلى نيتشه، إنسانًا قويًّا يرتفع بشجاعته من وسط الشعب، ولا يجد فارقًا بين الإنسان الأعلى والمجرم؛ إذ إن المجرم هو إنسان قوي نشأ في بيئة مريضة.
كان الإنسان الأعلى، بحسب نيتشه، هو هدف الإنسانية وليس النوع البشري ككل؛ إذ إن الحياة والبشر أشبه بمصنعٍ كبير تُجرى فيه التجارب، لا لإصلاح الإنسانية، بل لتحسين النوع، قائلًا إن الأفضل للمجتمع أن يفنى إذا لم يعمل على بعث إنسان سام.
جان بول سارتر.. فيلسوف الحرية
اعتنق الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر مبدأ الفلسفة الوجودية، وقد صاغ فلسفته الخاصة حول تأكيد الفردية ودعم الحرية. كان سارتر يعتقد أن الإنسان حر بطبيعته تمامًا، ووجود الإنسان يسبق ماهيته؛ إذ يصنع الإنسان حريته بنفسه، ويختار ماهيته الخاصة وخصائصها بإرادته الخالصة – والماهية التي يقصدها سارتر هي الصفات الأساسية الخاصة التي تميز كل شخص على حدة- مما يترتب عليه بالضرورة أن يتحمل الإنسان نتائج أفعاله، وتلك الحرية الكاملة التي اختارها بكامل إرادته.
يقول سارتر إن تلك الحرية وما يتبعها من مسؤولية كاملة تضع الإنسان في حالة من القلق والخوف من نتائج هذا الاختيار وتلك المسؤولية، ويرى أن القلق شيء عادي وطبيعي في حياة الإنسان، وبالتالي فإن الإنسان يظل طوال حياته يعيش في قلقٍ دائم، طالما أنه حر، يختار يتحمل مسؤولية اختياره.
الإنسان مشروع وجود يحيا ذاتيًّا، لا يرتبط بشيء وجد قبله في السماء، هكذا رأي سارتر الحياة، وجهًا إلى وجه في مواجهة العدم، وأن الحياة التي تخسر معناها، هي في حد ذاتها «وجود عدمي». أما الإنسان، فإنه يغترب عن ذاته داخل علاقاته بالآخرين؛ إذ إن الإنسان الآخر هو المرآة التي نرى أنفسنا فيها ليس بوصفه فاعلًا، بل منفعلًا بالوجود.
لودفيغ فيتغنشتاين .. لماذا يوجد كون من الأساس؟
الغموض لا يكمن في كيفية نشأة العالم، ولكن يكمن في فكرة وجوده من الأساس. *فيتغنشتاين
لم يكن الفيلسوف النمساوي لودفيغ فيتغنشتاين يؤمن بضرورة البحث عن كيفية نشأة الكون أو الحياة على سطح الأرض، وما كان يشغل باله حقًّا هو الإجابة عن سؤال: «لماذا هناك كون أصلًا؟». إن مهمة الفيلسوف – في اعتقاد فيتغنشتاين- لا تكمن في حل مثل هذه التساؤلات بقدر ما تكمن في محاولة تبديدها؛ إذ كان يرى أنها نابعة في الأساس من مجموعة «ألعاب لغوية»، نمارسها من خلال الخلط في استخدامنا لبنية اللغة، وأن مهمة الفيلسوف هي الفصل بين هذه الاختلافات، وإظهار الأسئلة الحقيقية من المزيفة.
كان فيتغنشتاين يؤمن أن معنى الحياة ليس من الأشياء التي يمكن قولها أو تفسيرها، بل يجب النظر إليه بوصفه «لغزًا»، وأن كل فكر أو قضية يجب أن تخدم معنى، ووصف القضايا التي لا تحمل أي معنى بـ«القضايا الهرائية»، واتبع في رسالته نظرية التحليل المنطقي؛ إذ وضع الوجود تحت المجهر للوقوف على طريقة تحليلنا للعالم.
وقد استخدم تحليل العالم عن طريق الوقائع الذرية – التي تتكون من مجموعة وقائع متشابكة- مدخلًا لمناقشة اللغة وتحليلها، والتي هي لب كتابه «رسالة منطقية فلسفية»؛ قائلًا إن العالم هو مجموعة من الوقائع الذرية- وهو ما يعني أن العالم نفسه يمكن النظر إليه بوصفه شيئًا مركبًا موجودًا في بنية العالم.