في عقود ماضية حينما كانت بريطانيا الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، قد أرست قاعدة لها من شرق الأرض إلى مغربها، أمست المعاناة أرضاً مشتركة للمحتلين من كل حدب وصوب، ومثلت الهند بقصتها كصفحة تجاور عديدين، حيث فاضت فيها أنهار من الدماء لا تجف في ذاكرة التاريخ، في ذلك الحين كانت فرنسا بإمبراطوريتها العريقة لا تقل إجراماً عن بريطانيا لما مارسته أيضا من انتهاكات وحشية للدول التي استعمرتها، وبالأخص الجزائر، على وتيرة واحدة خطت الإمبراطوريتين إلى جانب أمريكا التي مارست تباعاً فواجع كإبادتها للسكان الأصليين، وإن العروة الوثقى في تلك الأمثلة جمعاء، هي تأكيد شعوب الاستعمار على أفضالهم على من اغتصبوا أراضيهم لسنوات طويلة، والتمنع عن تقديم أي اعتذار للخراب الذي خلفوه، فما هي نظرتهم للأحداث ولطرفي القصة بما فيها أنفسهم؟ وما الذي يجعلهم يظنون بالأفضلية والاستحقاق للظفر بالعالم دوناً عنا؟
جاءت البداية ببزوغ فكرة: «نحن والآخرون» إلى العلن؛نحن:الأوربيون؛ بكل تميزنا وتفوقنا، أما الآخرون: فهم غير الأوربيين، الذين يجب أن يخضعوا لنا وأن يسلموا لنا مقاليد الهيمنة على ما يملكون، كانت هذه الاتجاهات التي خلص إليها الاستشراق نتيجة لعلاقات القوة، أو أوضاع السلطة التي دأب الغرب على الإمساك بها ومن ثم ممارستها على مقاليد الشرق، والتي نقدها مفكرون أبرزهم: إدوارد سعيد في كتابه: الاستشراق.
فيما يلي نحاول الخوض في نظرة الغربيين الفوقية التي لا تضمر للشرقيين، والمرور على بعض من خليفة معتقداتهم المترسخة وما سببته.
بريطانيا والهند
وطّن الاستعمار على ترسيخ دعائمه ومد جذوره في الأراضي المستعمرة، يضنيها اقتصادياً وثقافياً واجتماعياً، ليعمد على فرض لغته وثقافته ليصبح نسيجاً متداخلاً وأبدياً في حيوات تلكم الشعوب.
فباحتلال بريطانيا لخمس العالم الذي بدأته في القرن السادس عشرة ودام لثلاثة قرون ، سخرت دول شرق المتوسط والهند ودول الكاريبي لصناعة السلع المتنوعة والاستحواذ عليها على جميع الأصعدة وفي مختلف المجالات، وقد قدر حجم الاستنزاف الاقتصادي فقط للهند وحدها على مدار 173 عامًا من الاستعمار بأكثر من تسعة تريليون جنيه استرليني بحسب ما ذكر الخبير الاقتصادي أوتسا باتنايك، واصفاً السياسية التي انتهجتها بريطانيا في ذلك الوقت بالكارثية والتي تسببت في حدوث مجاعات، كمجاعة أوريسا، حيث قضى مليون هندي نحبهم من شدة الجوع. لم تكن هذه المأساة الأولى أو الأخيرة التي لحقت بالهند من الاستعمار البريطاني كما سنتطرق بعد، لكن المبررات التي صاغتها الحكومة البريطانية وانعدام الشعور بفداحة أفعالها استند إلى حجر أساس تبنته جميع الأنظمة الاستبدادية عامة.
مجاعة أوريسا |
لا ينتابني أدنى شك في أن الزنوج وكافة أنواع البشر الآخرين، هم بالفطرة طبيعياً في منزلة أدنى من مستوى الإنسان الأبيض.
-ديفيد هيوم
كان ديفيد هيوم في طليعة الفلاسفة، جنباً إلى جنب مع كانط الذين دعموا معتقد”التفوق الأبيض” الذي ساد، بالغاً ذروة شعبويته في فترة التوسّع الاستعماري الأوروبي إلى نصف الكرة الغربي وإفريقيا وآسيا، التي امتدت من أواخر القرن التاسع عشر إلى النصف الأول من القرن العشرين، وبحسب معجم ميريام ويبستر يشير مصطلح «التفوق الأبيض» إلى الأيديولوجية العنصرية الشاملة التي ترى أن العرق الأبيض متفوق في الأصل على باقي الأعراق، وينبغي أن يسود عليه. غالباً ما يستند هذا الاعتقاد إلى أفكار مبنية على العنصرية العلمية، أي الاعتقاد العلمي الزائف بأن الأجناس مهيأة وراثيًّا لصفات وسلوكيات مختلفة. وبالإضافة إلى اعتقاد الفرد بصحة فكرة التفوق الأبيض، فهذا المصطلح يمكن أن يحيل أيضًا إلى تسلسل هرمي عرقي أوسع (كالنظرية متعددة الأجناس للأعراق لصموئيل ج.مورتون الذي خلص فيها أيضا أن حجم جمجمة الإنسان هو معيار الحكم على ذكائه)، ونظام قمعي يكون فيه البيض المستفيدين الرئيسيين من مختلف السياسات الاقتصادية والاجتماعية وهو ما حدث منذ أمد التاريخ وما يزال سارياً إلى اليوم.
وقد قسَّم كانط الأجناس البشرية حسب اللون، وجعل أكثر الأجناس تطوراً وذكاءً ومساهمة في بناء الحضارات هي الأجناس البيضاء، تليها الأجناس الصفراء، ثم الأجناس السوداء، ثم تأتي الأجناس الحمراء – مثل الهنود الحمر وشعوب القارة الهندية – كأدنى الأجناس ذكاء وأقلها تطوراً.
كما تعد نظرية “العقد الاجتماعي“واحدة من أهم نظريات الفلسفة السياسية الحديثة، والتي طورها ثلاثة فلاسفة، البريطانيان “توماس هوبز” و “جون لوك” والفرنسي “جان جاك روسو“. وقد ارتأى “تشارلز ويد ميلز” أستاذ الفلسفة في جامعة نيويورك، والمختص بعلم الأعراق والأجناس عن الفيلسوفان أنه على الرغم من سمتها العالمية، إلا أن النظرية قد صيغت بشكل ومحتوى عنصري. لأن العقد الاجتماعي كان اتفاقاً بين الرجال البيض، وأن مضمون العقد يتمحور بصورة رئيسية حول كيفية تهميش وإقصاء الآخرين غير البيض، وكيفية استغلالهم، لأنهم غير مؤهلين للمشاركة في هذا التعاقد، وهي قمة العنصرية.
معركة الملايين ضد المئات
جندت بريطانيا أثناء احتلالها الهند إجبارياً آلافاً من الهنود تحت لوائها، كانت حمأة الغضب الصامت في أعينهم لما عانوه تحت وطأة النظرة الدونية لهم، والعمل في ظروف قاسية والأجور الزهيدة والضرائب المتزايدة، وفي العاشر من مايو 1857 وقعت أول انتفاضة وأهمها للهنود، ودامت لأكثرمن عام، ورغم انهزامهم ومآل الحال إلى تراجيديا فإنها خلفت أثراَ لا يُنسى، لكن البريطانيين رفضوا إطلاق مسمى “الثورة” على ما حدث ملقبينها “بالتمرد” كمدلول على الازدراء، مهما يكن، فقد التفّت أعين العالم إليهم باهتمام، وقد كانت الشرارة وقتما سرت شائعات مفادها أن الشركة الهندية الشرقية البريطانية التي كانت بمثابة سلطة ذات سيادة نيابة عن التاج البريطاني والتي أمدتهم بذخيرة بندقية إنفيلد؛ وهي ذخيرة أكثر فعالية من البنادق السابقة، وتُغَطى بلفائف ورقية مطلية بالشحم. ولتلقيم البندقية كان على الجنود أن يعضوا الخرطوش الذي كان مغطا بالشحم. وقد اشتقت تلك الشحوم إما من لحم البقر؛ وهو محرم على الهندوس أو من لحم الخنزير المحرم على المسلمين، لذا فقد انفجر أكثر من ثلثي الجنود الهنود الذي ناهز عددهم المئتا ألف محتدين لإدراك محاولات الحكومة البريطانية تنصيرهم وسلبهم حتى إيمانهم، وقد كانت البداية في شكل انتفاضة لجنود جيش الشركة في حامية بلدة ميروت، ثم مالبثت أن اندلعت في حاميات أخرى ومعها انتفاضات مدنية، وحمل الفلاحون المثقلون بالضرائب إلى جانب كثيرين لواء الثورة.
كانت تكلفة الثورة من حيث المعاناة والخسائر الإنسانية هائلة، فدُمرت دلهي. ولكن و بسبب نهب البريطانيين المنتصرين وحرقهم تلك المدن، أُبيدت قرى ريفية بسبب المقاومة، كما في أجزاء من أوده. وغالباً ما قُتل المتمردون وأنصارهم. وكذلك قُتِل الضباط البريطانيون آمري أفواج المتمردين، بالإضافة إلى المدنيين البريطانيين من نساء وأطفال. وكما ثار الهنود ضد البريطانيين فقد كان منهم من والاهم وقاتلوا في صفوف الإنجليز ضد إخوانهم حتى الرمق الأخير.
إعدام الجنود المسلمين الهنود بوضع رؤوسهم داخل فوهات المدافع البريطانية، لمشاركتهم في تمرد 1857، بريشة Vasily Vereshchagin في 1884.. |
ما حدث فعليا وما لم يحدث!
منذ الأبدية عرفت قدرة الإعلام على التضليل، لذا توجب دوما النظر إلى الصورة الكاملة، ففي انتفاضة 1857 وقع حادث تم تداوله على خلاف ما كان عليه، ولم تصلحه سوى شهادات وُثقت في صحيفة التايمز.
ما عاد هناك أمل في العالم
نظر سكين إلى زوجته الشابة الشاحبة
هل حان الوقت؟ نعم حان الوقت.
في ذروة أحداث الانتفاضة (ثورة استقلال الهند الأولى)، نشرت صحيفة “جريدة لندن المصورة” صورة يظهر فيها الكابتن سكين وهو ضابط في الجيش الريطاني، أقرب لبطل أسطوري، وعلى يديه سقطت امرأته صريعة بعد أن أرداها قتيلة ليحميها من مصير ينتظرها على أيدي وحشية الجنود الهنود الذين تكاتفوا عليهم، وقد لحق بزوجته تباعاً لينتحر وقد عضدت من تلك الرواية صورة ملفقة نشرتها جريدة “بول هيستوري” لهما بذات الوصف، وبجانبهما سكن طفل رضيع ناله الموت (الصورة ملفقة لأنه لم يكن هناك أي رضيع والمقصد كان إهاجة الناس).
أحدثت تلك الصور موجة تعاطف عالية، تأثر بها العديد من الكتاب والشعراء، أبرزهم كريستينا روسيتي؛ وهي شاعرة رومانسية كتبت قصيدة سيريالية متخيلة لساحة المعركة، تصور فيها سكين وزوجته كنبيلين عالقين في عالم لا ينتميان إليه، يتبادلان النظرات ويدركان حجم المذلة التي ستلحق بهما إن أدركهما الهنود، تسأله إن كان الأمر سيؤلمهما فيجيب نافياً، يتعانقان ويتمنى لو أمكن أن يجنبها الألم ويتحمله وحده، يستجديان الشجاعة لعمل ما أزعم عليه ويلتمس الغفران من الرب، يقبلها قبلات وداع سريعة حارة ليودعا بعدها الحياة.
ما حدث فعلياً
وثقت صحيفة “التايمز” شهادات من داخل معترك الأحداث، إحداهما جاءت في الثاني من سبتمبر والأخرى في الحادي عشرة من سبتمبر لعام 1857، ويحكي المصدر الأول عن الإضرابات في مدينة جانسي ورؤيته لكابتن سكين وزوجته يقبضان بزمام بندقيتهما مطلقين النار في كل صوب وقد قتلا وحدهما 37 هندياً وجرحا كثيرين، ليستأنف المصدر الثاني الأحداث مدلياً بدلوه عن مدى العنف والدموية التي شهدتها المدينة، بعد تواتر الأحداث وتصاعد الاضطرابات، فر الكابتن سكين وزوجته وأمر جميع المسيحيين ممن كانوا معه بالركون إلى القلعة. فقبعوا هناك تحت الحصار زمناً، يترقبون أعداءهم الذين بدأوا الهجوم في السادس من سبتمبر، وقيل في الثامن، وانتهت الأقاويل عند اليوم الحادي عشر، كان زعيم الهنود يدعى بورغيس، الذي عمد إلى قتل كل من أزمع على الفرار، بدءاً ممن حاولوا فتح بوابة القلعة أو مدوا حبالاً من النوافذ وتعلقوا بها أوممن تنكروا في ثياب أعدائهم، ولم يبقى سوى الكابتن سكين مع آخرين الذي أخذ يرسل استنجادات إلى المدن كمحاولات يائسة، حتى عرض المتمردون أن يبقوا على حياتهم إذا استسلموا وشرعوا أبواب القلعة. وافق سكين في النهاية لظنه أنه قد ضمن سلامتهم ، لكن الثوار كانوا ينتظرونهم بالسيوف، قيد الرجال واقتيد الجميع إلى حتفهم وقد قتلوا جميعهم بالسيف بلا تمييز.
لا يمكن الحفاظ على حكم استبدادي إلا من خلال الرعب والخوف.
أجهضت الثورة في الثامن من يوليو عام 1858 لتحكم الحكومة البريطانية الخناق على الهنود، وتقرر الملكة فيكتوريا أن تدار الهند مباشرة من الحكومة البريطانية، وقد قسمت المناطق في المدن الهندية وتوسعت نفوذ الأحكام العرفية، مما منح البريطانيين سلطة الحكم على حياة الهنود وأخذ حيواتهم دون اللجوء إلى الإجراءات القانونية الواجبة؛ فانحلت جميع القيود المفروضة على استخدام السلطة، ولم يبقى سوى الخوف من ضمور السلطة، فاستشرى العنف، وأصدرت المراسيم، وتقرر إعدام كل من شارك في الثورة أو أيدها، ودمرت الأحياء وأبيد السكان، وتم شنق جميع القادة المتمردين، خاصة في فوتيهبو، وروى ويليام راسل؛ وهو مراسل صحيفة لندن تايمز، الذي كان في الهند في عام 1858 برفقة ضابط ذكر أنه “خلال يومين ، تم شنق اثنين وأربعين رجلاً على جانب الطريق ، وتم إعدام مجموعة مكونة من اثني عشر رجلاً بالخطأ للاشتباه أنهم كانوا من الثوار، وثلة من الأطفال الذين اعتزوا بكونهم ثوريين لم يسلموا،كل هندي ظهر في الأفق أصيب بالرصاص أو علق على الأشجار التي تصطف على الطريق. وأحرقت الأراضي الزراعية بغرض رؤية الانكسار في أعين الفلاحين، لما تمثله لهم أراضيهم، ففجعوا بالمجاعات ومن ثم أحرق كل من في القرى من أبرياء، ولم يتردد الإنجليز في التفاخر بأنهم” لم يستثنوا أو يرحموا أحد”وأن” قتل الزنوج “كان هواية ممتعة!!