هل كان الإسلام بداية جديدة منقطعة عما سبقها تماماً؟ وبشكل خاص عما يسمى العصر الجاهلي، وثقافات ذلك العصر وأخلاقه وعباداته وعاداته؟ هذا السؤال، على الرغم من أنه يبدو بسيطاً، يشكل أساساً ليس لفهم الماضي فحسب، بل لفهم أهم مشاكل المجتمعات الإسلامية اليوم، ولمعرفة الطريق إلى المستقبل.
سرد “البدايات” ومآسي العصر الحديث
سرد “البدايات” ومآسي العصر الحديث
إذا سألنا أمهات قواميس اللغة العربية عن معنى الجاهلية، مثل قواميس لسان العرب والمحيط وتاج العروس وغيرها، ثم سألنا الإنترنت عن كلمتي “الإسلام” و”الجاهلية”، فسنقرأ من كل أرجاء العالم – بدءاً بأهم المواقع الرسمية حتى أكثرها شعبية – مقولة تختزل التاريخ الإسلامي الأول في “نموذج” فحواه أن الجاهلية فوضى و”جهل” وعنف. أي قاموسياً: الجهل ضد العلم، وجاء الإسلام ليهدم بنيانها، ويغيرها برمتها، فكان بداية جديدة مباركة، منقطعة بالكامل عن الجاهلية.
من المحيّر والمثير في الوقت ذاته، أن هذه الفرضية لا تمنع الإيمان الراسخ بعبقرية عرب الجاهلية كزعماء وفصحاء وشعراء وخطباء. ومن الغريب أن يستمر تصوير الجاهلية في مسارين متناقضين في آن واحد: الأول يعظّم الجاهلية، والثاني يهوّل سوءها، دون أن يستدعي أحدهما تغيير الآخر، أو إعادة النظر فيه. الاستثناء الأهم هو تشابك السردين في مناقشة عرب الجاهلية ممن لم يعاصروا الإسلام، أو من عاصروه ولم يدخلوا في الإسلام، ومصيرهم في الحياة الآخرة.
أورد هنا استشهاداً يتساءل عن الفرق بين الجاهلية والإسلام، وفي شرحه لهذا السؤال يجسد هذا السرد بامتياز: “الحقيقة، الجاهلية إما من الجهل وإما من الجهالة، الجهل أن تعتقد بخرافات لا أصل لها، والجهالة أن تخرج عن طريق الحق فتأخذ ما ليس لك، الجهالة هي السفه والجهل ضد العلم، والجاهلية التي كانت قبل الإسلام جاهلية جهلاء”.
هناك توافق حول هذه الرؤيا للتاريخ في السرد الرسمي والشعبي، إلا أن هذا الزعم لم يبدأ مع الإسلام، ولم ترسُ أسسه أيام الصحابة، ولا حتى في زمن التابعين. فما قصة هذه القطيعة المفترضة بين الإسلام والجاهلية؟ وما الذي أعطى الفرضية شعبيتها على مدى قرون، حتى وصلتنا وقبلناها دون تردد أو سؤال؟ والأهم، ما الذي يجعل هذا النقاش حول البدايات واجباً ملحاً لكل المجتمعات المسلمة اليوم؟
قصة “البداية”: ما الذي نبحث عنه في “بداية الإسلام”؟
في أقدم ما وصلنا من نصوص إسلامية، لم يكن هناك معلومات “خام” هدفها توثيق التاريخ المعيش، فما كان يشغل بال المسلمين كان مصيرياً وملحاً، وقد كانت الكتابة فرصة للمجتمع الإسلامي لمحاورة هويته الوليدة، وتأطير تواريخ وذاكرة العقود الأولى، فكان مساحة لمناقشة الشرعية السياسية وماهية الحكم، وطرح أطر الأخلاقيات والقيم الثقافية التي تعرّف المسلمين وتميزهم. وفي هذا الزخم، تقولب تاريخ البدايات، كما هو حال التوثيق التاريخي غالباً، في انتقائية مسيّسة للشخصيات والأحداث، والمقولات والتواريخ التي اختارها المجتمع، على حساب غيرها، قدمت كحقائق عن التاريخ الإسلامي الأول.
في الحقيقة، إن مصادر معلوماتنا تمثل تبلوراً متأخراً لتقليد شفوي قديم مستمر. بكلمات أخرى، عصر ما قبل الإسلام، والعقود الإسلامية الأولى، متوفرة لدينا فقط كما رآها المؤرخون اللاحقون، مغربلة في منهجية محددة للتأريخ، اعتمدت فيها الجاهلية على أنها “الآخر”، في قرار إيديولوجي لتشييد البناء الإسلامي.
وهكذا تم تقديم القطيعة بين العصرين، كل منهما ضد الآخر من خلال علاقته بالفردوس، في وضع تقابلي سياسياً، فبدأت تختفي التواريخ التي لا تخدم هذه المقابلة، أو تُعدّل لتهوّل ما يؤكد فجاجة الجاهلية وتنافيها مع كل ما هو إسلامي. وفي مسمياتنا للجاهلية تأصيل لهذا التوجه، فمخيلتنا مشبعة بعبارات عن “ظلمات الجاهلية” و”أغلال الجاهلية” و”مستنقع الجاهلية”، تغذيها وتدعمها صور وقصص وأمثال عن التعصب والقتل والظلم الذي عاشه الناس أيام الجاهلية، وهذه الانطباعات مجتمعة أسهمت في ترسيخ “الجاهلية” كرمز رديف لكل الشرور، قديمها وحديثها.
درس الباحثون المختصون في علاقة الجاهلية ببداية الإسلام وتجليات هذه الفرضية في الخطاب التاريخي، في استقصاء لماهية هذه الفرضية، ونشوئها. أهمهم، الباحثة الألمانية الدكتورة باربرا فرير ستواسر، صاحبة دراسات أصبحت مرجعاً لدراسة فترة الإسلام الأولى. تستقرئ ستواسر استمرارية ثقافية بين الجاهلية والإسلام عتّمت عليها هذه السرديات، وتجد أن هذه القطيعة الحادة بين الفترتين “مفترضة” تم إسقاطها على الموضوع في فترة لاحقة. تم ذلك، كما تبين ستواسر، تحت تأثير ممارسات ثقافية بدأت في القرنين الثاني والثالث الهجريين، وتزامنت مع ما يسمى بـ”المرحلة الكتابية” الأولى، أي عندما بدأ المجتمع الإسلامي بكتابة تاريخه الأول، فتطلع إلى ظهور الإسلام كأساس لهويته، وقيمها على أنها “بداية” جديدة، أعطاها خصوصيتها من خلال افتراض معاداتها للجاهلية. على هذا النحو تحدد ستواسر مرحلتين من التغيير القسري للتاريخ: الأولى من خلال تعريف الإسلام في مواجهة الجاهلية، ثم عن طريق المرحلة التأسيسية الإسلامية الأولى فيما بعد (القرنين الثاني والثالث)، ودورهما في تأطير السنوات التكوينية الأولى للقرن الأول الهجري.
يمكن الإطلاع على كامل نظريتها في كتابها الذي حقق شهرة واسعة في العالم الأكاديمي، وفي العالم الإسلامي كذلك، إذ حاضرت في أكثر من دولة خليجية منها المملكة السعودية، وفي المغرب وفي تركيا، وحاججت علماء المسلمين وكسبت احترامهم وتقديرهم.
تأثير القطيعة على نظرتنا للهوية الإسلامية اليوم
لماذا يجب أن نهتم بهذا السؤال، وما علاقته بمشاكل مجتمعاتنا المعاصرة؟ أذهب إلى القول إن مناقشة إشكالية القطيعة ضرورة ملحة للتعامل مع أزمة نواجهها في البلدان العربية، وبالتحديد في موقفنا من التعددية، خاصة أنّ عدداً من الدول العربية تتبنى سرد بداية الإسلام كمكوّن أساس في هوياتها الوطنية. وسأورد بعض الملاحظات في حدود ما تسمح به مساحة هذه المقالة:
أولاً، على مستوى المنظومة الثقافية: تتسرب في كتب السيرة والتاريخ الفقهي والسياسي قصص عن الجاهلية كان الهدف منها مديح الرسول الكريم بخاصة، والإسلام بعامة، وأذكر واحدة منها هي قصة سفّانة بنت حاتم الطائي بعد أن أسرها جيش الإسلام مع قومها من طيء. أقبلت على الرسول، وقالت له: “يا محمد! هلك الوالد، وغاب الوافد، فامنن عليّ منّ الله عليك، وخلّ عني، ولا تشمت بي أحياء العرب، فإن أبي كان سيد قومه، يفكّ العاني، ويعفو عن الجاني، ويحفظ الجار، ويحمي الذمار، ويفرّج عن المكروب، ويطعم الطعام، ويفشي السلام، ويعين على نوائب الدهر، وما أتاه أحد بحاجة فردّه خائباً، أنا بنت حاتم الطائي، فارحموا عزيز قوم ذل”. فقال لها النبي: يا جارية! (هنا بمعنى يا فتاة، يا صبية) هذه صفات المؤمن، لو كان أبوك مسلماً لترحمنا عليه، خّلوا عنها؛ فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق، والله يحب مكارم الأخلاق”.
هذه الحكاية، إن كانت حقيقة أم خيالاً، تؤكد إقرار نبي الإسلام بوجود قيم أخلاقية رفيعة لدى الجاهليين يحبها الله. وقد قال النبي عن نفسه: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”، وهذا الحديث يتفق على صحته جامعو الحديث الكبار جميعاً، أي أن “أخلاقاً كريمة” كانت موجودة في الجاهلية، كالمروءة والكرم والحلم والأمانة، ولكنها لم تكن متكاملة، فجاء الإسلام واحتضنها في منظومة أخلاقية واضحة، أعاد صياغة أبعادها المعرفية، وربطها بتبعات أبدية (عقاب وثواب في الحياة الآخرة)، فانعكست على سلوكيات المسلمين وقيمهم الاجتماعية، ومعاييرهم الأخلاقية. في ضوء ذلك تسقط ثنائية جهالة/أخلاق. للتعمق في هذا النقاش، يمكن الإطلاع على كتاب الباحث الياباني توشيهيكو إيزوتسو، الذي يبحث في المفاهيم الدينية ـ الأخلاقية في الإسلام.
وربما كان من المفيد هنا أن نذكر بأن حديث سفانة يؤكد أن والدها يتحلى بصفات المؤمن، ونضيف أن في أشعاره وأشعار غيره إقراراً بوجود الله الواحد، ويذهب معظم مؤرخي الأدب إلى أن حاتماً كان مسيحياً، أو على الأقل من الحنيفية، كما أن ابنه عدي كان مسيحياً واعتنق الإسلام، واستشهد. بالإضافة إلى قائمة تطول لأفراد في الجاهلية كانت لهم أخلاق حاتم ومعتقداته. إذا ليس الإسلام هو من نص على القطيعة التامة، ولا نبي الإسلام؛ بل المسلمون الذين قادوا المعرفة والدولة والمجتمع والدين.
ثانياً، على المستوى المعرفي: افتراض القطيعة مع الجاهلية يقدم الثقافة الإسلامية جامدة في الزمان والمكان، محددة فقط ببدايتها التي تقدم على أنها “نقية”، وبذلك يلغي الغنى الثقافي في الحضارة الإسلامية، الذي تأثر بالحضارات المزدهرة حولها منذ بداياتها حتى اليوم، ويفترض أن أي تأثير هو بمثابة “شائبة” تشوه الإسلام. لهذا التوجه تأثير كارثي. بداية، هذه النظرة الإشكالية تنفي علاقة الإسلام بالثقافات والمعتقدات السائدة في المنطقة، وتسعى لصهر كل ما هو إسلامي ليأخذ شكلاً موحداً على نحو إقصائي، وبذلك تتغاضى عن التعددية داخل الثقافة الإسلامية وتلغيها. فيتجسد ذلك في ضرورة التأكيد على ما يميز الإسلام عن غيره من الثقافات (والديانات) من خلال تعزيز أحادية لا تمثل الإسلام في أي فترة من فتراته.
القطيعة كما تستخدم في ثقافة الحداثة وما بعدها موقف فكري متكامل من التاريخ والمعرفة والعلاقات الاجتماعية، وهو موقف يعتبر القطيعة التامة شرطاً لأي حداثة، أو تقدم، أو خروج من عصور الظلام والاستبداد. والسؤال هو: هل تقتضي ثنائية الجاهلية / الإسلام أن يقوم المسلمون بقطيعة شاملة مع كل ما ليس على علاقة بالإسلام؟ وإذا كان الأمر كذلك، فكيف يمكن أن يستقيم أي شيء؟
قد تبدو مساءلة سرد البدايات عبثاً لا ضرورة له، إلا أن المشكلة تكمن في أن فرضية القطيعة بين الجاهلية والإسلام قد أسهمت ضمناً في رفض التعددية والاختلاف، والتنوع في سرديات بداية الإسلام في بقاع العالم (حتى وقتنا المعاصر)، فنذكر العصر الأموي الأول ونتجاهل الغنى الذي اكتسبه الإسلام من التفاعل مع ثقافة بلاد الشام والتأثير البيزنطي فيها، وكذلك في شمال إفريقية والأندلس، حيث تشكلت المجتمعات الإسلامية من قلب الحضارات السائدة، التي احتضنتها وأغنتها، ومع ذلك ما زلنا نستعين بهذا الموقف (القطيعة) لرفض مكونات المجتمعات غير الإسلامية، أو لرفض التعددية داخل الإسلام نفسه.
أخيراً، فيما أرى، إن قراءتنا للتاريخ الأول للإسلام بمقدورها أن تحدد توجهاتنا الثقافية والسياسية اليوم. وقد يكون الاعتراف بالتعددية التي تمتع بها الإسلام في البدايات الأولى، وتشابك ثقافته مع الجاهلية في استمرارية عميقة، شرطاً لاعتماد الانفتاح والتعددية في الحاضر والمستقبل، وفرصة لتستمر المجتمعات الإسلامية في تعاطيها مع مكوناتها المتنوعة، كما في مقاربتها للمجتمعات غير الإسلامية، منفتحة، ومرنة، وتشاركية، وقادرة على محاورة هويتها من قلب معطياتها وظروفها، دون الحاجة لاعتماد الرفض والإقصاء، داخلياً أو خارجياً، لرسم معالم وجودها.
المصدر
هذا المقال لا يعبر سوى عن رأي كاتبه، ولا يعبر عن رأي فريق مدونة الطالب.
من المحيّر والمثير في الوقت ذاته، أن هذه الفرضية لا تمنع الإيمان الراسخ بعبقرية عرب الجاهلية كزعماء وفصحاء وشعراء وخطباء. ومن الغريب أن يستمر تصوير الجاهلية في مسارين متناقضين في آن واحد: الأول يعظّم الجاهلية، والثاني يهوّل سوءها، دون أن يستدعي أحدهما تغيير الآخر، أو إعادة النظر فيه. الاستثناء الأهم هو تشابك السردين في مناقشة عرب الجاهلية ممن لم يعاصروا الإسلام، أو من عاصروه ولم يدخلوا في الإسلام، ومصيرهم في الحياة الآخرة.
أورد هنا استشهاداً يتساءل عن الفرق بين الجاهلية والإسلام، وفي شرحه لهذا السؤال يجسد هذا السرد بامتياز: “الحقيقة، الجاهلية إما من الجهل وإما من الجهالة، الجهل أن تعتقد بخرافات لا أصل لها، والجهالة أن تخرج عن طريق الحق فتأخذ ما ليس لك، الجهالة هي السفه والجهل ضد العلم، والجاهلية التي كانت قبل الإسلام جاهلية جهلاء”.
هناك توافق حول هذه الرؤيا للتاريخ في السرد الرسمي والشعبي، إلا أن هذا الزعم لم يبدأ مع الإسلام، ولم ترسُ أسسه أيام الصحابة، ولا حتى في زمن التابعين. فما قصة هذه القطيعة المفترضة بين الإسلام والجاهلية؟ وما الذي أعطى الفرضية شعبيتها على مدى قرون، حتى وصلتنا وقبلناها دون تردد أو سؤال؟ والأهم، ما الذي يجعل هذا النقاش حول البدايات واجباً ملحاً لكل المجتمعات المسلمة اليوم؟
قصة “البداية”: ما الذي نبحث عنه في “بداية الإسلام”؟
في أقدم ما وصلنا من نصوص إسلامية، لم يكن هناك معلومات “خام” هدفها توثيق التاريخ المعيش، فما كان يشغل بال المسلمين كان مصيرياً وملحاً، وقد كانت الكتابة فرصة للمجتمع الإسلامي لمحاورة هويته الوليدة، وتأطير تواريخ وذاكرة العقود الأولى، فكان مساحة لمناقشة الشرعية السياسية وماهية الحكم، وطرح أطر الأخلاقيات والقيم الثقافية التي تعرّف المسلمين وتميزهم. وفي هذا الزخم، تقولب تاريخ البدايات، كما هو حال التوثيق التاريخي غالباً، في انتقائية مسيّسة للشخصيات والأحداث، والمقولات والتواريخ التي اختارها المجتمع، على حساب غيرها، قدمت كحقائق عن التاريخ الإسلامي الأول.
في الحقيقة، إن مصادر معلوماتنا تمثل تبلوراً متأخراً لتقليد شفوي قديم مستمر. بكلمات أخرى، عصر ما قبل الإسلام، والعقود الإسلامية الأولى، متوفرة لدينا فقط كما رآها المؤرخون اللاحقون، مغربلة في منهجية محددة للتأريخ، اعتمدت فيها الجاهلية على أنها “الآخر”، في قرار إيديولوجي لتشييد البناء الإسلامي.
وهكذا تم تقديم القطيعة بين العصرين، كل منهما ضد الآخر من خلال علاقته بالفردوس، في وضع تقابلي سياسياً، فبدأت تختفي التواريخ التي لا تخدم هذه المقابلة، أو تُعدّل لتهوّل ما يؤكد فجاجة الجاهلية وتنافيها مع كل ما هو إسلامي. وفي مسمياتنا للجاهلية تأصيل لهذا التوجه، فمخيلتنا مشبعة بعبارات عن “ظلمات الجاهلية” و”أغلال الجاهلية” و”مستنقع الجاهلية”، تغذيها وتدعمها صور وقصص وأمثال عن التعصب والقتل والظلم الذي عاشه الناس أيام الجاهلية، وهذه الانطباعات مجتمعة أسهمت في ترسيخ “الجاهلية” كرمز رديف لكل الشرور، قديمها وحديثها.
درس الباحثون المختصون في علاقة الجاهلية ببداية الإسلام وتجليات هذه الفرضية في الخطاب التاريخي، في استقصاء لماهية هذه الفرضية، ونشوئها. أهمهم، الباحثة الألمانية الدكتورة باربرا فرير ستواسر، صاحبة دراسات أصبحت مرجعاً لدراسة فترة الإسلام الأولى. تستقرئ ستواسر استمرارية ثقافية بين الجاهلية والإسلام عتّمت عليها هذه السرديات، وتجد أن هذه القطيعة الحادة بين الفترتين “مفترضة” تم إسقاطها على الموضوع في فترة لاحقة. تم ذلك، كما تبين ستواسر، تحت تأثير ممارسات ثقافية بدأت في القرنين الثاني والثالث الهجريين، وتزامنت مع ما يسمى بـ”المرحلة الكتابية” الأولى، أي عندما بدأ المجتمع الإسلامي بكتابة تاريخه الأول، فتطلع إلى ظهور الإسلام كأساس لهويته، وقيمها على أنها “بداية” جديدة، أعطاها خصوصيتها من خلال افتراض معاداتها للجاهلية. على هذا النحو تحدد ستواسر مرحلتين من التغيير القسري للتاريخ: الأولى من خلال تعريف الإسلام في مواجهة الجاهلية، ثم عن طريق المرحلة التأسيسية الإسلامية الأولى فيما بعد (القرنين الثاني والثالث)، ودورهما في تأطير السنوات التكوينية الأولى للقرن الأول الهجري.
يمكن الإطلاع على كامل نظريتها في كتابها الذي حقق شهرة واسعة في العالم الأكاديمي، وفي العالم الإسلامي كذلك، إذ حاضرت في أكثر من دولة خليجية منها المملكة السعودية، وفي المغرب وفي تركيا، وحاججت علماء المسلمين وكسبت احترامهم وتقديرهم.
تأثير القطيعة على نظرتنا للهوية الإسلامية اليوم
لماذا يجب أن نهتم بهذا السؤال، وما علاقته بمشاكل مجتمعاتنا المعاصرة؟ أذهب إلى القول إن مناقشة إشكالية القطيعة ضرورة ملحة للتعامل مع أزمة نواجهها في البلدان العربية، وبالتحديد في موقفنا من التعددية، خاصة أنّ عدداً من الدول العربية تتبنى سرد بداية الإسلام كمكوّن أساس في هوياتها الوطنية. وسأورد بعض الملاحظات في حدود ما تسمح به مساحة هذه المقالة:
أولاً، على مستوى المنظومة الثقافية: تتسرب في كتب السيرة والتاريخ الفقهي والسياسي قصص عن الجاهلية كان الهدف منها مديح الرسول الكريم بخاصة، والإسلام بعامة، وأذكر واحدة منها هي قصة سفّانة بنت حاتم الطائي بعد أن أسرها جيش الإسلام مع قومها من طيء. أقبلت على الرسول، وقالت له: “يا محمد! هلك الوالد، وغاب الوافد، فامنن عليّ منّ الله عليك، وخلّ عني، ولا تشمت بي أحياء العرب، فإن أبي كان سيد قومه، يفكّ العاني، ويعفو عن الجاني، ويحفظ الجار، ويحمي الذمار، ويفرّج عن المكروب، ويطعم الطعام، ويفشي السلام، ويعين على نوائب الدهر، وما أتاه أحد بحاجة فردّه خائباً، أنا بنت حاتم الطائي، فارحموا عزيز قوم ذل”. فقال لها النبي: يا جارية! (هنا بمعنى يا فتاة، يا صبية) هذه صفات المؤمن، لو كان أبوك مسلماً لترحمنا عليه، خّلوا عنها؛ فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق، والله يحب مكارم الأخلاق”.
هذه الحكاية، إن كانت حقيقة أم خيالاً، تؤكد إقرار نبي الإسلام بوجود قيم أخلاقية رفيعة لدى الجاهليين يحبها الله. وقد قال النبي عن نفسه: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”، وهذا الحديث يتفق على صحته جامعو الحديث الكبار جميعاً، أي أن “أخلاقاً كريمة” كانت موجودة في الجاهلية، كالمروءة والكرم والحلم والأمانة، ولكنها لم تكن متكاملة، فجاء الإسلام واحتضنها في منظومة أخلاقية واضحة، أعاد صياغة أبعادها المعرفية، وربطها بتبعات أبدية (عقاب وثواب في الحياة الآخرة)، فانعكست على سلوكيات المسلمين وقيمهم الاجتماعية، ومعاييرهم الأخلاقية. في ضوء ذلك تسقط ثنائية جهالة/أخلاق. للتعمق في هذا النقاش، يمكن الإطلاع على كتاب الباحث الياباني توشيهيكو إيزوتسو، الذي يبحث في المفاهيم الدينية ـ الأخلاقية في الإسلام.
وربما كان من المفيد هنا أن نذكر بأن حديث سفانة يؤكد أن والدها يتحلى بصفات المؤمن، ونضيف أن في أشعاره وأشعار غيره إقراراً بوجود الله الواحد، ويذهب معظم مؤرخي الأدب إلى أن حاتماً كان مسيحياً، أو على الأقل من الحنيفية، كما أن ابنه عدي كان مسيحياً واعتنق الإسلام، واستشهد. بالإضافة إلى قائمة تطول لأفراد في الجاهلية كانت لهم أخلاق حاتم ومعتقداته. إذا ليس الإسلام هو من نص على القطيعة التامة، ولا نبي الإسلام؛ بل المسلمون الذين قادوا المعرفة والدولة والمجتمع والدين.
ثانياً، على المستوى المعرفي: افتراض القطيعة مع الجاهلية يقدم الثقافة الإسلامية جامدة في الزمان والمكان، محددة فقط ببدايتها التي تقدم على أنها “نقية”، وبذلك يلغي الغنى الثقافي في الحضارة الإسلامية، الذي تأثر بالحضارات المزدهرة حولها منذ بداياتها حتى اليوم، ويفترض أن أي تأثير هو بمثابة “شائبة” تشوه الإسلام. لهذا التوجه تأثير كارثي. بداية، هذه النظرة الإشكالية تنفي علاقة الإسلام بالثقافات والمعتقدات السائدة في المنطقة، وتسعى لصهر كل ما هو إسلامي ليأخذ شكلاً موحداً على نحو إقصائي، وبذلك تتغاضى عن التعددية داخل الثقافة الإسلامية وتلغيها. فيتجسد ذلك في ضرورة التأكيد على ما يميز الإسلام عن غيره من الثقافات (والديانات) من خلال تعزيز أحادية لا تمثل الإسلام في أي فترة من فتراته.
القطيعة كما تستخدم في ثقافة الحداثة وما بعدها موقف فكري متكامل من التاريخ والمعرفة والعلاقات الاجتماعية، وهو موقف يعتبر القطيعة التامة شرطاً لأي حداثة، أو تقدم، أو خروج من عصور الظلام والاستبداد. والسؤال هو: هل تقتضي ثنائية الجاهلية / الإسلام أن يقوم المسلمون بقطيعة شاملة مع كل ما ليس على علاقة بالإسلام؟ وإذا كان الأمر كذلك، فكيف يمكن أن يستقيم أي شيء؟
قد تبدو مساءلة سرد البدايات عبثاً لا ضرورة له، إلا أن المشكلة تكمن في أن فرضية القطيعة بين الجاهلية والإسلام قد أسهمت ضمناً في رفض التعددية والاختلاف، والتنوع في سرديات بداية الإسلام في بقاع العالم (حتى وقتنا المعاصر)، فنذكر العصر الأموي الأول ونتجاهل الغنى الذي اكتسبه الإسلام من التفاعل مع ثقافة بلاد الشام والتأثير البيزنطي فيها، وكذلك في شمال إفريقية والأندلس، حيث تشكلت المجتمعات الإسلامية من قلب الحضارات السائدة، التي احتضنتها وأغنتها، ومع ذلك ما زلنا نستعين بهذا الموقف (القطيعة) لرفض مكونات المجتمعات غير الإسلامية، أو لرفض التعددية داخل الإسلام نفسه.
أخيراً، فيما أرى، إن قراءتنا للتاريخ الأول للإسلام بمقدورها أن تحدد توجهاتنا الثقافية والسياسية اليوم. وقد يكون الاعتراف بالتعددية التي تمتع بها الإسلام في البدايات الأولى، وتشابك ثقافته مع الجاهلية في استمرارية عميقة، شرطاً لاعتماد الانفتاح والتعددية في الحاضر والمستقبل، وفرصة لتستمر المجتمعات الإسلامية في تعاطيها مع مكوناتها المتنوعة، كما في مقاربتها للمجتمعات غير الإسلامية، منفتحة، ومرنة، وتشاركية، وقادرة على محاورة هويتها من قلب معطياتها وظروفها، دون الحاجة لاعتماد الرفض والإقصاء، داخلياً أو خارجياً، لرسم معالم وجودها.
المصدر
هذا المقال لا يعبر سوى عن رأي كاتبه، ولا يعبر عن رأي فريق مدونة الطالب.