وسط بناية صغيرة يحفّها الهدوء في قلب كلية الطب والصيدلة بالرباط،
التابعة لجامعة محمد الخامس، يقعُ مختبر التكنولوجيا الحيوية MedBiotech. وبالرغم من صِغر مساحة
المختبر، فإنَّ الدكاترة الذين يشتغلون داخله يُنجزون أبحاثا طبية رائدة، ويقودون
ثورة علميّة يُرتقبُ أن يتمخّض عنها تحديد جينُوم موّحد لجميع المغاربة؛ وهو ما
سيمكّن من التعرّف على التركيب الوراثي والجيني الكامل للإنسان المغربي.
إنجاز علمي كبير
الفريق العلمي المُشتغل داخل مختبر التكنولوجيا الحيوية بالرباط،
برئاسة البروفيسور عز الدين الإبراهيمي، تمكّن، منذ أسابيع، بمعيّة مختبر
البكترولوجيا بالمستشفى العسكري بالرباط، من قراءة الجينوم الكامل لبكتيريا داء
السّل وتسلْسُله بنسبة مائة في المائة، وجرى نشر البحث في أكبر المجلات العلمية
بالولايات المتحدة الأمريكية، وهي genome announcement، التابعة للجامعة الأمريكية للمكروبيولوجي.
"أنا سعيد جدّا بهذا الإنجاز، الذي يُعدُّ سبْقا والذي سيفتح
لنا كثيرا من الأبواب؛ لأنّ الفريق الذي أنجزه مغربيُّ مائة في المائة، وهو إنجاز
علمي مغربيّ مَحض"، يقول الإبراهيمي، مشيرا إلى أنَّ الفريق العلمي المشتغل
في المختبر درَس عشرات الجينومات، بدْءًا بالجينومات المتعلّقة بالبكتيريا
والفيروسات، عبر آلةٍ دقيقة اقتناها المختبر، وهي الأولى من نوعها في المغرب.
وبالرغم من أنَّ البحث العلمي في المجال الطبّي كَوْنيٌّ، فإنَّ
الفريق العلمي المشتغل بمختبر التكنولوجيا الحيوية بكلية الطب والصيدلة بالرباط يعمل
على "مَغربة" أبحاثه، حيث اشتغل الفريق، بتعاون مع كلية العلوم بالرباط،
على قراءة 60 جينوما، تتعلّق ببكتيريا خاصّة موجودة في المغرب ولا توجد في قارات
أخرى، جرى جمْعها من الصحراء نواحي مرزوكة، حسب البروفيسور الإبراهيمي، موضحا
"قُمنا بقراءة تسلسُل هذه البكتيريا، وهناك نتائجُ مهمّة في الطريق".
ويضعُ الفريق العلمي بالمختبر نُصْب عينه، في الوقت الراهن، هدفَ
قراءة كل ما يتعلّق بجينات الإنسان، من خلال الاشتغال على بعض الأمراض
والاضطرابات؛ مثل مرض السرطان واضطراب التوحّد، بهدف تحديد خاصيّة الجينوم
والجينات المسؤولة عن هذه الأمراض والاضطرابات لدى الساكنة المغربية، على أمل
القيام بجينوم مَرْجعي Génome de référence لجميع المغاربة، الذي يعدّه الإبراهيمي "مشروعا طموحا نحلم
بإنجازه من أجل مساعدة المريض المغربي على العلاج من مختلف الأمراض"، مضيفا
أن "المريض المغربي يستحق العناية التامّة، لذلك نبني عملنا على أساس
خِدمته".
وتتأسّس المقاربة التي ينهجها مختبر التكنولوجيا الحيوية بكلية الطب
والصيدلة بالرباط، حسب توضيحات الإبراهيمي، على ما يُسمّى médecine
translationnelle نقل ما يُنجزه المختبر من أبحاث إلى سرير المريض، بأقصى سرعة
ممكنة، لافتا إلى أنَّ المختبر يحتلّ مرتبة مرموقة في هذا المجال، نظرا لوجُوده في
مُحيط يضمّ سبعَة مستشفيات، وكُلّيتيْن للطب؛ وهو ما يُتيح التفاعل بين الباحثين
والأطباء والصيادلة في مجال البحث العلمي الطبّي واستفادة المرضى من نتائجها.
وتُعتبر خريطة الجينوم البشري من أبرز الاكتشافات العلمية في تاريخ
الطبّ والتكنولوجيا. وقد عدَّها الرئيسُ الأمريكي السابق بيل كلينتون "أعظم
خريطة أنتجها العقل البشري"، بعد إعلان العلماء في مجموعات من مراكز البحث في
العالم عن تمكّنهم من التوصل إلى خارطة شبه كاملة لمكونات المنظومة الوراثية
المكوِّنة للحياة البشرية.
وحسب إفادة البروفيسور الإبراهيمي، فإنَّ قراءة توحيد الجينوم
المغربي ستمكّن من تطوير أساليب تشخيص وعلاج مختلف الأمراض.
خلْق مُختبر من عَدم
حينَ أنشئ مختبر التكنولوجيا الحيوية بكلية الطب والصيدلة بالرباط،
كانَ الهمّ الأساسي لمؤسسيه هو البحث عن الموارد البشرية، التي هي الركيزة
الأساسية في ميدان البحث العلمي؛ وهو ما دفع إلى خلْق ماسْتر للبيوتكنولوجيا
الحيوية الطبيّة بالكلّية. وعبْر هذا الماستر، جرى تكوين فوج جديد من الباحثين
المغاربة الذين لهم دراية ومعرفة بهذه المواضيع الجديدة؛ لكنَّ البحث في هذا
الميدان يتطلب مُعدّات للعمل وفضاءً مُلائما.. في البداية، كانَ المكان الذي أنشيء
فيه المختبر لا تتوفر فيه الشروط الكفيلة للبحث، فهبَّ مؤسّسوه بمعيّة طلبة
وفاعلين في الميدان الطبي وبمساعدة مؤسسات خاصة وأشخاص ذاتيين إلى تجهيز المختبر،
"لقدْ خلقْنا هذا المختبر من عَدم"، يقول البروفيسور الإبراهيمي.
ويضمّ المختبر ثلاث وحدات مركزية، الأولى تشتغل على دراسة الـDNA، الذي يحتوي على جميع
معلومات المواد الحية. وتمكّن قراءته كاملا من تحديد أخطاء إذا وُجدتْ فيه، أو
متغيرات أو طفرات، وربْطها بالأمراض التي تصيب الإنسان، وبالتالي تعزيز فرص
التشخيص والعلاج.
الوحدة الثانية التي يضمّها المختبر تشتغل على التشخيص الجيني، وهو
عبارة عن طفرات معروفة، وتعني تغيُّرا يحدث في المعلومات الجينية للإنسان، ومقرونة
بأمراض معينة. وتتوفر هذه الوحدة، حسب الإبراهيمي، على ما يكفي من التقنيات التي
تُمكِّن من دراستها، لتحديد التشخيص الحيوي الدقيق للمريض، وكذا العلاج الذي يحتاج
إليه، لافتا إلى "أنّ الأوان قد آن لتكون هناك مبادرة وطنية في المغرب ليكون
لدينا الطب الدقيق médecine de precision، الذي يُمكّن المرضى من الاستفادة من أحسن العلاجات
الممكنة".
كما يضمّ المختبر وحدة bioinformatique، جرى تجهيزها، في إطار شراكة مع مؤسسة أمريكية، بخوادم serveurs، لنقل تجارب 15 دولة
إفريقية والاستفادة منها وتبادُل التجارب والخبرات معها في هذا الميدان، من أجل
خلق بنك معلومات للجينومات وتحليلها في المختبر. واعتبر الإبراهيمي أنّ المغرب
لديه من الطاقات ما يؤهله إلى أن يكون رائدا في هذا المجال، على الأقل في إفريقيا،
خاصّة أنَّ الدكاترة الباحثين الذين يشتغلون في المختبر هم تقنيو معلومات
informaticiens، كما يتوفر المختبر على وحدة أخرى خاصة بالخلايا.
informaticiens، كما يتوفر المختبر على وحدة أخرى خاصة بالخلايا.
صعوبة صرْف التمويل
يعتمدُ مختبر التكنولوجيا الحيوية بكلية الطب بالرباط في تمويل
الأبحاث التي يقوم بها على مصادر متنوعة، مثل المِنح التي يحصل عليها من مؤسسات
خارج المغرب ومن المؤسسات الخاصة وكذا الدعم الذي تقدمه وزارة التعليم العالي.
ولا يطرح الحصول على التمويل مشكلا بالنسبة إلى مسؤولي المختبر؛
لكنَّ آليات الاستفادة منه تطرح مشكلا كبيرا، ذلك أنّ الحصول عليه "يتمّ
بصعوبة شديدة"، حسب الإبراهيمي.
وعلى الرغم من أنّ مذكّرة مشتركة بين وزارة التعليم العالي وتكوين
الأطر والبحث العلمي وبين وزارة المالية تقضي بتسريع وتيرة صَرف الدعم المالي
المخصص للبحث العلمي، فإنَّ هذا الدعم ما زال لا يُصرف بطريقة سلسة.
وفي هذا الإطار، دعا البروفيسور الإبراهيمي وزارة المالية إلى النظر
في هذا الموضوع؛ "لأنّ البحث العلمي تحفُّه مجموعة من الإكراهات، قائلا:
"إذا كان المطلوب من الباحث أن يأتي بفكرة البحث والتمويل، ويجدُ صعوبة في
صرف هذا التمويل فهذا يُعقّد مهامّه".
وبالنسبة إلى رئيس مختبر التكنولوجيا الحيوية بكلية الطب والصيدلة
بالرباط، والذي ازداد بمدينة وزان وترعرع في مدينة القصر الكبير، فإنّ الهمّ
الأكبر للفريق المشتغل برفقته هو تطوير البحث العلمي بالمغرب.
البروفيسور الإبراهيمي، الذي خاض مسارا علميا ناجحا في كل من فرنسا
التي حصل منها على شهادة الدكتوراه سنة 1986 ولم يتجاوز عمره بعد 26 سنة ثم
الولايات المتحدة الأمريكية التي قضّى عشر سنوات كباحث ثمّ أستاذ جامعي بجامعة
ستوني بروك بولاية نيويورك وهي من أهمّ الجامعات الأمريكية، شدد قائلا: "نريد
أن نضع البحث العلمي في المغرب كمنتوج وطني خالص، وأن يكون المغربُ مُعتَرفا به
كفاعل في ميدان البحث العلمي على الصعيد العالمي. وهذا لا يُمكن تحقيقه إلا إذا
كان لدينا بحث يَخرج من مختبرات مغربية مائة في المائة، بتمويل مغربي مائة في
المائة".
ويختم المتحدث ذاته تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية بكثير من
التفاؤل والتحدّي: "لا ريْبَ في أننا قادرون على رفْع هذا التحدّي، والدليل
هو العمل الذي أنجزناه رفقة مختبر البكترولوجي بالمستشفى العسكري بالرباط، والذي
كان عملا مغربيا خالصا"، يقول الإبراهيمي.
هسبريس - محمد الراجي