لاقت الأبحاث حول ثنائية اللغة انتشارا واسعا على مدى السنوات الماضية؛ يقترح بعضها أن ثنائية اللغة تشحذ العقول بينما تهدف الأخرى إلى التشكيك في هذه الأبحاث ومدى أثر ثنائية اللغة على صاحبها. أحد الأمثلة على المقالات المشككة مقال "هل ثنائية اللغة حقا ميزة؟" والذي كتبته ماريا كونيكوفا في مجلة النيويوركر (The New Yorker). يعكس تأرجح البندول في دورة الأخبار جدلا حقيقيا في الأدبيات العلمية المعرفية؛ حيث لاحظت بعض المجموعات تأثيرات ثنائية اللغة على المهارات والقدرات والوظائف غير اللغوية، في حين لم يتمكن آخرون من تكرار هذه النتائج.
على الرغم من كل هذه الضجة التي أُثيرت حول "ميزة ثنائية اللغة"، فإن معظم الباحثين انتقلوا من التساؤل إذا ما كان هنالك "ميزة معرفية" لدى ثنائيي اللغة أم لا، إلى اتخاذ نهج أكثر دقة من خلال استكشاف مختلف جوانب ثنائية اللغة لفهم آثارها الفردية بشكل أفضل.
لإيضاح الفروق الدقيقة التي أتحدث عنها، ضع في اعتبارك وجود عدة أنواع من ثنائية اللغة: "ثنائي اللغة المتزامن" الذي تعلم لغتين مختلفتين منذ ولادته، وهناك "ثنائي اللغة المتتالية في عمر مبكر" حيث غالبا ما يتم استخدام لغة معينة في المنزل ولغة أخرى في المجتمع في سن مبكرة (والتي غالبا ما يتعلمها في المدرسة). أما النوع الثالث فهو "ثنائي اللغة المتتالية في عمر متأخر" والذي ينشأ على لغة معينة ثم ينتقل إلى بلد آخر حيث يتعلم لغة ثانية. إن الاختلافات بين هذه الأنواع غالبا ما تؤدي إلى مستويات مختلفة من الكفاءة والطلاقة في جوانب متعددة من اللغة من طريقة اللفظ إلى فهم المقروء.
في دراسة حديثة، درست باتريشيا كوهل من جامعة واشنطن وزملاؤها تأثيرات طريقتين تستخدم فيهما اللغة الثانية: الاستماع والمحادثة. استخدم الباحثون تقنية يطلق عليها صورة مصفوفة الانتشار ((diffusion tensor imaging) (DTI -وهي أحد أشكال التصوير بالرنين المغناطيسي الموزن بمعامل الانتشار- والتي تتعقب تدفق المياه عبر الدماغ لقياس الاختلافات في المادة البيضاء في دماغ ثنائيي اللغة (الذين يتقنون اللغتين الإسبانية والإنجليزية في الدراسة) وأُحاديي اللغة (الذين يتقنون لغة واحدة وهي الإنجليزية في الدراسة) الذين يعيشون حاليا في الولايات المتحدة. استخدم الباحثون تلك البيانات بالإضافة إلى مقاييس للاستماع والمحادثة -في اللغة الثانية- والتي أبلغ عنها ثنائيو اللغة ذاتيا، لتحليل تأثير كل من هذه التجارب على "المادة البيضاء" في الدماغ.
لماذا المادة البيضاء تحديدا؟ إن المادة البيضاء هي إحدى المادتين المكونتين للجهاز العصبي المركزي وتتكون بشكل أساسي من خلايا دبقية ومحاور عصبية مسؤولة عن إرسال الإشارات العصبية. من خلال دراسة المادة البيضاء يمكن قياس الترابط بين مناطق الدماغ. إذا فكرنا في الدماغ البشري على أنه ماء موضوع في كوب، الكوب جمجمتنا، والقشة في هذا الكوب هي المادة البيضاء فهي تحدد تدفق الماء في الاتجاه الذي تسير فيه المحاور. أحد مقاييس صورة مصفوفة الانتشار الشائعة هو التباين الجزئي (fractional anisotropy) (FA) الذي يرسم خريطة تدفق الماء في الدماغ. أما المقياس الآخر الأكثر تحديدا فهو الانتشار الشعاعي (radial diffusivity) (RD) الذي يساعد الباحثين على تحديد النقاط الضعيفة في جانب القشة، أي الأماكن التي قد "تتسرب" منها المياه. لطالما تمسك الباحثون بفكرة أن المادة البيضاء في المخ السليم ستظهر التباين الجزئي (FA) عاليا (تدفق الماء في اتجاه واحد)، وستكون منخفضة في الانتشار الشعاعي (RD) (تسرب المياه في اتجاهات أخرى).
ومع ذلك وجدت كوهل وزملاؤها في دراستهم أن أحاديي اللغة كانوا يمتلكون تباينا جزئيا (FA) أعلى وانتشارا شعاعيا أقل في عدة محاور عصبية في المادة البيضاء مما لدى ثنائيي اللغة، والذي يُعد عيبا ظاهريا لثنائيي اللغة (لأن النتيجة تدل على أن أحاديي اللغة يمتلكون دماغا أكثر صحة). ولكن لم يكن الأمر بهذه البساطة؛ فعندما درسوا تأثير تجربة ثنائيي اللغة الفعلية أو مقدار الوقت المستغرق للاستماع للغة الثانية والتحدث بها، وجدوا أنه كلما زادت خبرة (طالت مدة تجربة) ثنائيي اللغة تقلّصت الفروق بين ثنائيي اللغة وأحاديي اللغة.
في الواقع، عندما أجرى الباحثون تحليلات المتابعة للمقارنة بين ثنائيي اللغة الأكثر إلماما باللغة والأقل إلماما باللغة وبين أحاديي اللغة، وجدوا أن ثنائيي اللغة الذين قضوا ما لا يقل عن أربع سنوات في الولايات المتحدة لديهم مستويات مماثلة من المادة البيضاء مقارنة مع أحاديي اللغة. أما ثنائيو اللغة الذين قضوا عامين أو أقل في الولايات المتحدة أظهروا أنماطا مختلفة عن أحاديي اللغة بشكل ملحوظ.
يجب أن تذكرنا نتائج هذه الدراسة بأن ثنائية اللغة ليست سوى أحد العوامل العديدة التي يمكن أن تؤثر على الدماغ. في هذه الدراسة، كان العامل غير المذكور هو أن جميع ثنائيي اللغة تقريبا كانوا مهاجرين، في حين لم يكن أيٌّ من أحاديي اللغة في هذه الدراسة كذلك. قد تكون هناك مجموعة كاملة من العوامل المختلفة بين البلدان والتي تؤثر على مستويات المادة البيضاء الأساسية، مثل التغذية المبكرة (خلال طفولتهم ونموهم) والإجهاد. وبالتالي فإن مقارنة المؤلفين بين ثنائيي اللغة المهاجرين وبين أحاديي اللغة غير المهاجرين ليس مناسبا. وعلينا تفسير الفرق العام بين أحاديي اللغة وثنائيي اللغة في هذه الدراسة بحذر. أعتقد أن المساهمة المهمة لهذه الدراسة ليست في الفرق العام بين أحاديي اللغة وثنائيي اللغة، بل في تأثير خبرة وتجربة ثنائيي اللغة: حيث يؤدي الاستخدام النشط للغتك الثانية إلى الحصول على مادة بيضاء أكثر صحة.
تلفت هذه الدراسة نظرنا إلى أهمية أخذ خبرة وتجربة ثنائيي اللغة بعين الاعتبار؛ إن جمع دراسات ثنائية اللغة مع بعضها البعض وإجراء تقييمات عامة ليس بالأمر البنّاء. إذا كنت ترغب في جمعها معا، فيجب أن تتذكر أنه بغض النظر عن المزايا المعرفية أو التشريحية المعلنة لهذه الدراسات فإن ثنائيي اللغة لديهم ضِعْف المجتمعات للتعامل معها (يستطيعون التفاعل مع مجتمعات تتحدث لغتهم الأولى والثانية) وضِعْف الثقافات لتجربتها والصحف التي يستطيعون قراءتها. إذا لم تكن هذه ميزة، فما هي؟! يدرس الملايين اللغة الإنجليزية كلغة ثانية في كل عام لهذه الأسباب تحديدا. إذ يسعى الغالبية لتعلم لغة ثانية وأكثر، يجدر الإشارة إلى أن هنالك ثلاثة أضعاف من المتقنين للغة الإنجليزية كلغة ثانية مما يوجد من متحدثي اللغة الإنجليزية كلغة أم.
حتى في كوني متحدثة باللغة الإنجليزية كلغة أم، لو لم أدرس اللغة الإسبانية لما كنت أكتب هذا المقال؛ فتجاربي في تعلم اللغات قادتني للاهتمام باللغات والعلوم المعرفية. لذا دعونا نعيد كتابة القصة في وسائل الإعلام: ثنائية اللغة هي ميزة بلا شك، أما كيف تؤثر على دماغنا، فهذا الموضوع ما زال قيد الدراسة.
على الرغم من كل هذه الضجة التي أُثيرت حول "ميزة ثنائية اللغة"، فإن معظم الباحثين انتقلوا من التساؤل إذا ما كان هنالك "ميزة معرفية" لدى ثنائيي اللغة أم لا، إلى اتخاذ نهج أكثر دقة من خلال استكشاف مختلف جوانب ثنائية اللغة لفهم آثارها الفردية بشكل أفضل.
لإيضاح الفروق الدقيقة التي أتحدث عنها، ضع في اعتبارك وجود عدة أنواع من ثنائية اللغة: "ثنائي اللغة المتزامن" الذي تعلم لغتين مختلفتين منذ ولادته، وهناك "ثنائي اللغة المتتالية في عمر مبكر" حيث غالبا ما يتم استخدام لغة معينة في المنزل ولغة أخرى في المجتمع في سن مبكرة (والتي غالبا ما يتعلمها في المدرسة). أما النوع الثالث فهو "ثنائي اللغة المتتالية في عمر متأخر" والذي ينشأ على لغة معينة ثم ينتقل إلى بلد آخر حيث يتعلم لغة ثانية. إن الاختلافات بين هذه الأنواع غالبا ما تؤدي إلى مستويات مختلفة من الكفاءة والطلاقة في جوانب متعددة من اللغة من طريقة اللفظ إلى فهم المقروء.
لماذا المادة البيضاء تحديدا؟ إن المادة البيضاء هي إحدى المادتين المكونتين للجهاز العصبي المركزي وتتكون بشكل أساسي من خلايا دبقية ومحاور عصبية مسؤولة عن إرسال الإشارات العصبية. من خلال دراسة المادة البيضاء يمكن قياس الترابط بين مناطق الدماغ. إذا فكرنا في الدماغ البشري على أنه ماء موضوع في كوب، الكوب جمجمتنا، والقشة في هذا الكوب هي المادة البيضاء فهي تحدد تدفق الماء في الاتجاه الذي تسير فيه المحاور. أحد مقاييس صورة مصفوفة الانتشار الشائعة هو التباين الجزئي (fractional anisotropy) (FA) الذي يرسم خريطة تدفق الماء في الدماغ. أما المقياس الآخر الأكثر تحديدا فهو الانتشار الشعاعي (radial diffusivity) (RD) الذي يساعد الباحثين على تحديد النقاط الضعيفة في جانب القشة، أي الأماكن التي قد "تتسرب" منها المياه. لطالما تمسك الباحثون بفكرة أن المادة البيضاء في المخ السليم ستظهر التباين الجزئي (FA) عاليا (تدفق الماء في اتجاه واحد)، وستكون منخفضة في الانتشار الشعاعي (RD) (تسرب المياه في اتجاهات أخرى).
ومع ذلك وجدت كوهل وزملاؤها في دراستهم أن أحاديي اللغة كانوا يمتلكون تباينا جزئيا (FA) أعلى وانتشارا شعاعيا أقل في عدة محاور عصبية في المادة البيضاء مما لدى ثنائيي اللغة، والذي يُعد عيبا ظاهريا لثنائيي اللغة (لأن النتيجة تدل على أن أحاديي اللغة يمتلكون دماغا أكثر صحة). ولكن لم يكن الأمر بهذه البساطة؛ فعندما درسوا تأثير تجربة ثنائيي اللغة الفعلية أو مقدار الوقت المستغرق للاستماع للغة الثانية والتحدث بها، وجدوا أنه كلما زادت خبرة (طالت مدة تجربة) ثنائيي اللغة تقلّصت الفروق بين ثنائيي اللغة وأحاديي اللغة.
يجب أن تذكرنا نتائج هذه الدراسة بأن ثنائية اللغة ليست سوى أحد العوامل العديدة التي يمكن أن تؤثر على الدماغ. في هذه الدراسة، كان العامل غير المذكور هو أن جميع ثنائيي اللغة تقريبا كانوا مهاجرين، في حين لم يكن أيٌّ من أحاديي اللغة في هذه الدراسة كذلك. قد تكون هناك مجموعة كاملة من العوامل المختلفة بين البلدان والتي تؤثر على مستويات المادة البيضاء الأساسية، مثل التغذية المبكرة (خلال طفولتهم ونموهم) والإجهاد. وبالتالي فإن مقارنة المؤلفين بين ثنائيي اللغة المهاجرين وبين أحاديي اللغة غير المهاجرين ليس مناسبا. وعلينا تفسير الفرق العام بين أحاديي اللغة وثنائيي اللغة في هذه الدراسة بحذر. أعتقد أن المساهمة المهمة لهذه الدراسة ليست في الفرق العام بين أحاديي اللغة وثنائيي اللغة، بل في تأثير خبرة وتجربة ثنائيي اللغة: حيث يؤدي الاستخدام النشط للغتك الثانية إلى الحصول على مادة بيضاء أكثر صحة.
تلفت هذه الدراسة نظرنا إلى أهمية أخذ خبرة وتجربة ثنائيي اللغة بعين الاعتبار؛ إن جمع دراسات ثنائية اللغة مع بعضها البعض وإجراء تقييمات عامة ليس بالأمر البنّاء. إذا كنت ترغب في جمعها معا، فيجب أن تتذكر أنه بغض النظر عن المزايا المعرفية أو التشريحية المعلنة لهذه الدراسات فإن ثنائيي اللغة لديهم ضِعْف المجتمعات للتعامل معها (يستطيعون التفاعل مع مجتمعات تتحدث لغتهم الأولى والثانية) وضِعْف الثقافات لتجربتها والصحف التي يستطيعون قراءتها. إذا لم تكن هذه ميزة، فما هي؟! يدرس الملايين اللغة الإنجليزية كلغة ثانية في كل عام لهذه الأسباب تحديدا. إذ يسعى الغالبية لتعلم لغة ثانية وأكثر، يجدر الإشارة إلى أن هنالك ثلاثة أضعاف من المتقنين للغة الإنجليزية كلغة ثانية مما يوجد من متحدثي اللغة الإنجليزية كلغة أم.
حتى في كوني متحدثة باللغة الإنجليزية كلغة أم، لو لم أدرس اللغة الإسبانية لما كنت أكتب هذا المقال؛ فتجاربي في تعلم اللغات قادتني للاهتمام باللغات والعلوم المعرفية. لذا دعونا نعيد كتابة القصة في وسائل الإعلام: ثنائية اللغة هي ميزة بلا شك، أما كيف تؤثر على دماغنا، فهذا الموضوع ما زال قيد الدراسة.
____________________________________________________
ترجمة (آلاء أبو رميلة)
هذا التقرير مترجم عن: Aeon ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان