الإمام محمد عبده مخاطبا الفيلسوف والأديب تولستوي
"هداك الله إلى معرفة سرّ الفطرة التي فطر الناسَ عليها، ووقفكَ على الغاية التي هدى البشرَ إليها، فأدركتَ أن الإنسان جاء إلى هذا الوجود لينبُت بالعلم ويثمر بالعمل… ونظرتَ نظرة في الدين مزَّقت حُجب التقاليد، ووصلتَ بها إلى حقيقة التوحيد".
قليلٌ هم مَن لا يعرفون ليو تولستوي (1828-1910م) الأديب والفيلسوف الروسي العظيم الذي ذاع صيته منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي وإلى يومنا هذا، لقد كتب تولستوي روايات ومؤلفات على قدر كبير من الروعة الأدبية والتصوير الفني الواقعي، حتى إن موسوعته "الحرب والسلام" التي تُصوِّر المجتمع الروسي والأوضاع العسكرية والسياسية الأوروبية في القرن التاسع عشر منذ حروب نابليون وما تلاها، بكل تفاعلاتها وانسيابيتها وتعقيداتها العاطفية والواقعية، قد شبّهها البعضُ لفرط روعتها بـ "إلياذة العصور الحديثة"، وقد تُرجمت هذه الإلياذة الحديثة إلى معظم اللغات العالمية، وحُوِّلت إلى عدد من الأفلام والمسلسلات.
وتدخل روايته الأخرى الشهيرة "أنّا كارنينا" في دائرة أعماله الواقعية الشهيرة التي تُصوِّر حياة الطبقة الأرستقراطية الروسية بصورة أقرب للحقيقة، فهو لا يحفل بمُثُل الخير والشر التي كان يهتم بها الروائيون الكلاسيكيون في عصره بقدر ما يحفلُ بمبررات أفعال كل شخصية من شخصيات روايته، التي أرادها أن تكون أقرب للشأن الروسي في عصره، وأقرب للواقعية في شخوصها وأهدافها وانفعالاتها الداخلية.
وإذا كان تولستوي ممّن ينفرون من السفسطة الزائدة والغموض الفلسفي، وإن كان فيلسوفا ومصلحا أخلاقيا كما نراه في جُلّ رواياته، لكننا نرى فيه أيضا الشخصية القلقة التي لا تُسلّم لما استقرّ عليه المجتمع الروسي الأرثوذكسي من ناحية الدين والأخلاق والطبقية والفلسفات الأوروبية الواردة مثل الرأسمالية والليبرالية بسهولة كما فعل معظم أبناء عصره آنذاك، ولهذا انفتح تولستوي على الحكمة العالمية، وشرع منذ لحظات باكرة من حياته في البحث عن المُثُل الأخلاقية سواء في الأرثوذكسية أم في غيرها من الأديان.
وكان تولستوي لحُسن حظّه قد تعرّف على الأدب العربي منذ نعومة أظفاره، فقد عرف حكاية "علاء الدين والمصباح السحري"، وقرأ "ألف ليلة وليلة"، وعرف حكاية "علي بابا والأربعون حرامي" وحكاية "قمر الزمان بين الملك شهرمان"، وقد ذكر هاتين الحكايتين ضمن قائمة الحكايات التي تركت في نفسه أثرا كبيرا قبل أن يصبح عُمره أربعة عشر عاما. ولعله لهذا السبب قد اتجه لدراسة اللغتين العربية والتركية في كلية الدراسات الشرقية بجامعة قازان الروسية في عام 1844م، ثم هجر دراسته تلك في عام 1847م لأن طريقة التدريس كانت عقيمة لم تُعجبه.
فما السبب إذن الذي دفع تولستوي للتعرف على الإسلام وحكمة (أي أحاديث) النبي صلى الله عليه وسلم؟ وماذا كتب عن ذلك؟ وكيف كانت شخصية تولستوي ومذهبه ونظرته إلى الأرثوذكسية والطبقية في عصره؟ ذلك ما سنراه في قصتنا التالية.
قلق واعتراف
في كتابه "اعتراف" يقف تولستوي بشجاعة تامة ليخبربنا بقلقه وفكره الذي لم يتوقف قط حول ديانته ورجال الدين من القساوسة والرهبان الذين سيطروا على الحياة الدينية والسياسية وعلى عقول ملايين من الناس في روسيا القيصرية وكانوا أكبر عائق أمام حركة العلم والفكر كما يظن، يقول: "إن تأثير التعليم الديني الذي قبلناه في المدرسة عن طريق الثقة والإيمان البسيط وحفظته السلطة المطلقة في حياتنا يضمحلُّ شيئا فشيئا تجاه المعرفة التي نستمدها من اختيارات الحياة اليومية التي تُناقض كل مبادئه، ومع أن الفرد منا يعتقدُ أن إيمانه لا يزال راسخا في أعماق قلبه فإن هذا الإيمان لا أثر له في حياته العملية"[1].
إن تولستوي منذ صبوته كان دائم البحث عن حقيقة معتقده، كان عقله المحب للآداب والحكايات، والقارئ للفلسفة، والعاشق لأخبار الشرق وتاريخه وقصصه، القلق والنافر من النمطية والرتابة، يبحث ببساطة عن السمو الأخلاقي والفكري، عن سؤال "لا يعرف ماهيته" كما خطّ قلمُه، يعترف قائلا: "انقطعتُ عن الصلاة وأنا في السادسة عشرة من العُمر، وتحوّلتُ عن حضور الاحتفالات الكنسية والمحافظة على صيامات الكنيسة بملء إرادتي وقناعتي، قد طرحتُ عني الإيمان الذي تعلّمته في صباي… إنني لم أُنكر المسيح ولم أجحد تعاليمه، ولكن الحقيقة التي تدور عليها هذه التعاليمُ لم أعرف عنها شيئا"[2].
تولستوي أعظم أدباء روسيا |
ربما دفعه هذا القلق الفكري والبحث عن شيء لا يُدرك ماهيته إلى الهرب إلى الأمام، لقد ترك دراسته في كلية الدراسات الشرقية رغم حبه للشرق، واتجه إلى الجيش الروسي لينضم إليه في حربه التي كان يخوضها ضد الشعوب الإسلامية من القوزاق والجركس والشيشان والداغستان وغيرهم في القوقاز تحت قيادة الإمام شامل الداغستاني (ت 1871م)، لكنه أُعجب بعادات وشجاعة وفروسية هذه الشعوب، فضلا عن طبيعتها الغنّاء وجبالها العالية الشاهقة، فكتب عنها روايته "القوزاق" في عام 1863 في ريعان شبابه، ثم روايته "الحاج مراد" التي كانت آخر أعماله.
يمكننا أن نقول إن تولستوي كان واسع الخيال، محبّا للحرية، وعلى رأسها حرية الكلمة والموقف، فإذا كان المسلمون هم أعداء روسيا القيصرية التي كانت تتوسع على حسابهم، وترتكب فيهم المجازر في القرن التاسع عشر وما قبله على حساب الدولة العثمانية ورعاياها، فإن تولستوي كان يحترم هؤلاء "الأعداء" ويرى في تراثهم وثقافتهم وشخصيتهم عوامل جذب قوية عَبَّرَ عنها بالقول والكتابة.
دفاعا عن محمد صلى الله عليه وسلم
رأى تولستوي تحامل جمعيات المبشّرين في مدينته قازان/كازان على الدين الإسلامي ونسبتها إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- أمورا تُنافي الحقيقة، تُصوِّر للروس تلك الديانة الإسلامية وأعمال نبيّها بصورة غير صورتها الحقيقية، فوضع رسالة صغيرة اختار فيها عدّة أحاديث من أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم-، ذكرها بعد مقدمة جليلة الشأن، قائلا: "هذه تعاليمُ صاحب الشريعة الإسلامية، وهي عبارة عن حِكَم عالية ومواعظ سامية تقود الإنسان إلى سواء السبيل، ولا تقلُّ في شيء عن تعاليم الديانة المسيحية"[3].
يقول أيضا في مقدمة رسالته "حكم النبي محمد": "محمد (صلى الله عليه وسلم) لم يقل عن نفسه إنه نبي الله الوحيد، بل اعتقدَ أيضا بنبوّة موسى والمسيح.. وفي سِني دعوة محمد الأولى احتمل كثيرا من اضطهاد أصحاب الديانة القديمة شأن كل نبيّ قبله نادى أمته إلى الحقّ، ولكن هذه الاضطهادات لم تُثنِ عزمه بل ثابر على دعوة أمّته… وقد امتاز المؤمنون كثيرا عن العرب بتواضعهم وزهدهم في الدنيا، وحب العمل والقناعة، وبذلوا جهدهم لمساعدة إخوانهم في الإيمان لدى حلول المصائب بهم"[4].
ثم يعترف تولستوي بمكارم أخلاق الصحابة والجيل الأول من المسلمين رغم كراهية أعدائهم لهم، فيقول: "إذا كان انتشار الإسلام بصورة كبيرة على يد هؤلاء لم يرُق بعضا من البوذيين والمسيحيين فإن ذلك لا ينفي حقيقة أن المسلمين اشتهروا في صدر الإسلام بالزُّهد في الديانة الباطلة، وطهارة السيرة والاستقامة والنزاهة، حتى أدهشوا المحيطين بهم بما هم عليه من كرم الأخلاق ولين العريكة والوداعة، ومن فضائل الدين الإسلامي أنه أوصى خيرا بالمسيحيين واليهود لا سيّما قسوس الأولين، فقد أمرَ بحُسن معاملتهم ومؤازرتهم، حتى أباح هذا الدين لأتباعه التزوّج من المسيحيات واليهوديات مع الترخيص لهم بالبقاء على دينهم"[5].
ثم بعد مقدمته المُنصفة للإسلام ونبيه -صلى الله عليه وسلم- والجيل الأول من المؤمنين به وبيان أخلاقهم مع المحيطين به، اختار عددا من أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- واعتبرها من الحكمة الصافية التي تهدي إلى الأخلاق الحسنة والمروءة، وقد جعل هذه المنتخبات من الحكمة النبوية نقاطا متعاقبة لا يجمعها باب معين اللهم إلا الحكمة والأخلاق التي تهدي إليها، منها:
- لا يكملُ إيمان المرء حتى يحبّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه. وهو حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- المروي في صحيح البخاري ومسلم وغيرهما من كتب المصنفات الحديثية: "لا يُؤمن أحدكم حتّى يحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه".
- ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدق؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إصلاح ذات البين[6]. والحديث رواه أحمد في مسنده وغيره.
في مواجهة الكنيسة
وإذا كان تولستوي يحترم الإسلام وحِكَم النبي -صلى الله عليه وسلم- التي انتخبها في كتابه "حِكَم النبي محمد"، فقد ظل إلى نهاية حياته مُتشكِّكا في الأرثوذكسية، يكتب ويصرّح بذلك دون خوف، وقد رفض الاعتراف بمجمل عقائد الكنيسة، ورأى أن الدين الحقيقي هو الذي يدعو إلى المساواة بين البشر، ونبذ الشر والعنف وضبط الذات، ولذلك وهو على أعتاب الثالثة والسبعين من عُمره، وفي 20 فبراير/شباط 1901م صدر قرار المجمع المقدس عن الكنيسة الأرثوذكسية الروسية بحرمان تولستوي أو طرده.
وقد جاء في قرار الطرد وحيثيات المجمع المقدس: "إن الكاتب الروسي الشهير الكونت تولستوي، الذي ذاع ذكره في العالم، أرثوذكسي المولد، واعتمد وتهذّب في الأرثوذكسية، قد غرَّه عقله المتعظّم على أن يقوم بوقاحة الرب ومسيحه وميراثه المقدس، قد أنكر علانية أمام الجميع أمّه الكنيسة الأرثوذكسية التي هذّبته وثقّفته، وقد كرّس جميع مواهبه العقلية وقواه العلمية لنشر التعاليم المضادة للمسيح والكنيسة ليُزيل من عقول وقلوب الناس إيمان آبائهم"[7].
الحرب والسلم .. ليو تولستوي |
وقد ردّ تولستوي على قرار هذا المجمع الذي وصفه بالفاسد بقوله: "إن قرار المجمع كان في غاية الرداءة كالرجال الذين كتبوه وأمضوه وهم يعتقدون بصحة كلامهم اعتقادا متينا؛ لكونهم يطلبون من الله أن يُغيّر ما بي لأصير مثل واحد منهم، وإني أحمد الله لأنه لم يستجب دعاءهم"[8].
ولعل هذه الشهرة والقوة في مواجهة ما رآه تولستوي باطلا وفسادا وتناقضا في قرار المجمع المقدس، ودعوته إلى مذهب أخلاقي يسود فيه العدل والإنصاف والشعور بالفقراء في المجتمع الروسي القيصري الذي بلغت الطبقية فيه مع نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين مبلغا رآه تولستوي ظلما لا يُحتمل، ومُنكرا من القول وزورا، الذي تكلل في نهاية المطاف بطرده من الأرثوذكسية، كل ذلك جعلَ الآلاف من المعاصرين له من المشرق والغرب يعرفون قدره، ويكتبون عنه، ويُثنون على مذهبه ومنطقه وفلسفته.
حتى إن الإمام محمد عبده (ت 1905م)، مفتي الديار المصرية وأحد رواد النهضة الفكرية الحديثة، أرسل إلى تولستوي بعد قرار طرده وحرمانه من الكنيسة خطابين يُثني عليه فيهما، ويشكره على تلك المواقف التي هي أقرب للحق والفطرة السليمة، يقول في أحدهما: "أيها الحكيم الجليل موسيو تولستوي: لم نحظَ بمعرفة شخصك، ولكننا لم نُحرم التعارف مع روحك… هداك الله إلى معرفة سرّ الفطرة التي فطر الناسَ عليها، ووقفكَ على الغاية التي هدى البشرَ إليها، فأدركتَ أن الإنسان جاء إلى هذا الوجود لينبُت بالعلم ويثمر بالعمل… ونظرت نظرة في الدين مزَّقت حُجب التقاليد، ووصلتَ بها إلى حقيقة التوحيد، ورفعت صوتك تدعو الناس إلى ما هداك الله إليه، وتقدّمتَ أمامهم بالعمل لتحمل نفوسهم عليه، فكما كنت هاديا للعقول كنتَ بعملك حاثًّا للعزائم والهمم"[9].